ثلاثُ حقائق، ثلاث خطواتٍ، وثلاثة مطالب … أجندة الحراك العملانيّة للأيّام المقبلة تحدّد معيار النجاح أو الفشل

صباح 30 تشرين الأول 2019

في كثيرٍ من الأحيان تختلط علينا مفاهيم مختلفة لمسائل متقاربة. في الحروب مثلاً، وقفُ إطلاقِ النار لا يعني صنع السلام. قد يوقف البلدان المتحاربان النارَ لكنّ هذا لا يعني أنّ البلدَيْن يصنعان سلاماً. في الثورات، أنتَ تحارب الفساد مثلاً، لكنّ هذا لا يعني حُكماً أنّكَ إذا انتصرتَ ستنجحُ في بناء دولة القانون. قد ينتصر أهلُ بلدٍ على حاكمٍ طاغية، تماماً كما حصل في العراق بإزاحة صدّام حسين. لكنّ هذا الانتصار لم يمنع حقيقةً أكيدة وهي أنّ الذين أتوا بعده لم يكونوا أقلّ منه فساداً وظُلماً للناس. ما يجري الآن في العراق دليلٌ على ذلك.

لماذا هذا الكلام الآن؟ لأنّ الحراك سجّل خرقاً أول في حركته قد يعتبره البعض انتصاراً، وهو استقالة الحكومة. السؤال المطروح الآن هو: “ماذا بعد اليوم”؟ عندما يقود حراكٌ شعبيٌّ عفويٌّ مئات الآلاف من الناس في ثورةٍ شعبيّة، وعندما يسجّل هذا الحراك خرقاً كبيراً يتمثّل باستقالةِ الحكومة، يترتّب على هذا الحراك أن يُبلورَ أجندةً مطلبيّة وخارطة طريق للمرحلة المقبلة.

يستطيع الحراك الآن أن يُصر على إقفال الطرقات وعلى اتّخاذ قرارٍ بعدم الخروج من الشارع قبل رحيل رئيسَيْ الجمهوريّة ومجلس النواب. هو يستطيع فعل ذلك. لكنّ الحراك يجب ساعتئذٍ أن يستعدّ لمعركةٍ طويلة، وأن يهيّء لها الموارد الضروريّة وفي طليعتها التأكّد من مثابرة الناس على تأييده وقدرتهم على فعل ذلك. هذا لن يكون بالأمر السهل.
ويستطيع الحراك في المقابل أن يستفيد من لحظة سقوط الحكومة، وأن يحوّلها إلى بداية خطّة عملٍ جديدة مهيّئةٍ بعناية يفرضها على من هُم في السلطة. هذه الخطّة، في هدفها الأول، يجب أن تُريح الناس في مكانٍ ما وتعزّز قدرتهم على الصمود، وتدفعُهم إلى تقديم المزيد من التأييد للحراك. ومن شأن الخطّة في مكانٍ آخر أن تُعطي من هُم في السلطة فرصةً لكي يخرجوا مُرغَمين من الـ Comfort Zone أي “منطقة الراحة” التي قبعوا فيها سعداء منذ إتّفاق الطائف، وأن يلاقوا الحراك في منتصف الطريق، على أمل أن يتغيّر وجه مجلس النواب بشكلٍ أساسٍ في أول انتخابات نيابيّة لعلّها تكون مُبكِرة.
إذا كان الحراك يبحث عمّا نسمّيه في الأزمات بالـ Total Win، أي الربح الكامل والناجز، فهذا حقّه. لكنّ متى ما أرادَ أحدٌ أن يذهبَ باتّجاه الربح الكامل، عليه أن يُدرك أنّ إمكانيّة الـ Total Loss أي الخسارة الكاملة قد تكون مطروحةً أيضاً، وهذا ما لا يريدُه الناس للحراك إطلاقاً. الحراك مثّل ويمثِّل شعلةَ أملٍ للناس، حتّى في المناطق التي قُمِع فيه تحرّكُهم. لكن إذا كان الحراك يبحثُ عن تسويةٍ بمعنى الـ Compromise، وليس بمعنى المساومة، فجديرٌ به أن يضع خطّة عمل للتحرّك Action Plan لها أهدافٌ واضحة ودربٌ واضح المعالم. وهنا أودّ القول أنّه بقَدَر ما يحقُّ للحراك أن يهدفَ إلى تغيير الأشخاص، عليه أن يتذكّر باستمرار أنّ الهدف ليس الأشخاص. تغييرُ الأشخاص سيأتي كما نقول في الكيمياء كـ Byproduct، أي كتحصيل حاصل أو كأمرٍ ثانوي. الهدف هو اقتلاع الفساد “المعَشْعِش” بكل زاويةٍ من زوايا الدولة، وبالتالي بناء دولة المواطنة. هذا هو الهدف. المشروع هو الهدف، وليس الأشخاص، وإنْ كان المشروع لا بُدّ أن يعبر من خلال تغيير الوجوه المقيتة التي روّجَت للفساد ومارسَتْه وحَمَتْه طيلة ثلاثة عقودٍ من الزمن.

وإذا أرادت الانتفاضة أن تحقِّق الأهداف، لا بُدّ لها أن تُدرك ثلاث حقائق، وأن تخطو ثلاث خطوات، وأن تصبو إلى تحقيق ثلاثة مطالب.

في الحقائق الثلاث: أولاً، استقالة الرئيس سعد الحريري أعطَت الانتفاضة فرصةً ثمينةً لكي تبدأ بدايةً جديدة. لو لم يستقِل الحريري، ولو استمرّ أهل السلطة برفض التعديل الحكومي كما فعلوا، لكانت الانتفاضة في وضعٍ أصعب ممّا هي عليه صباح اليوم. ثانياً، استقالة الرئيس الحريري ليست خسارة له فحسب. هي خسارة لكلّ الطبقة الحاكمة من دون استثناء. وهذا نصرٌ للحراك ليس بقليل. كذلك فإنّه ليس من رابحٍ الآن إلّا الشعب والشعب اللبناني وحده. ثالثاً، اللعبة الآن تتعلّق بمصير وطن. الانتفاضة مسؤولةٌ بشكلٍ من الأشكال الآن عن مصير لبنان واللبنانيّين. هذه مسؤوليّة كبيرة جدّاً. وهذا يحتّم على الحراك أن يتصرّف الآن على هذا المستوى من الوعي. هذا عن الحقائق الثلاث. فماذا عن الخطوات الثلاث إذاً؟

الخطوة الأولى تتمثّل بمبدأ القبول بالتفاوض. في الحروب، التفاوض يجري مع الأعداء وليس مع الحلفاء. إذا رفضتَ التفاوض مع العدو، فمع من تتفاوض؟ الخطوة الثانية تتمثّل بتشكيل ورقة عمل للنقاش. تستطيع الانتفاضة أن تضع على جدول أعمال النقاش أيّ بندٍ تريده. هذا حقّها. والخطوة الثالثة تتمثّل في اعتماد المرونة من دون التنازل الضعيف، واعتماد الصلابة من دون الوقوع في فخّ التعنّت. هذا عن الحقائق والخطوات، فماذا عن المطالب؟

المطلب الأول برأيي الآن هو تشكيل حكومة ثلثها من التكنوقراط. وهؤلاء يجب ألا يكونوا فقط من التقنيّين. هؤلاء يجب أن يكونوا ممّن يعيشون هَمَّ لبنان. ومن الضروري إسناد كلّ الحقائب التي لها علاقة بالاقتصاد لهم من مثل: وزارة الماليّة، وزارة الاقتصاد، وزارة العمل، وزارة الطاقة، وزارة التربية، وزارة الأشغال وغيرها. لتَكُن الداخليّة والدفاع والخارجيّة للسياسييّن. ما هم ذلك؟ قد تسألني: “لماذا لا يكون كلّ الوزراء من التكنوقراط”؟ السبب في ذلك يعود إلى أنّ الحراك يجب أن يكون واقعيّاً. حزب الله لن يقبل بهكذا حكومة، والوضع قد يذهب إلى المجهول. الانتفاضة يجب ألا تقبل بالإنجرار إلى المجهول. أنتَ لا تريد أن تصبح “يمن” آخر أو “عراق” آخر أو “ليبيا” أخرى. ألا يحقُّ لنا كمواطنين أن نحظى بحكومة كلّ أعضائها من التكنوقراط؟ بلى وألف بلى، لكن في عالم السياسة هناك ما نسمّيه بالـ Realpolitik أي “الواقعيّة السياسيّة”. حكومةٌ ثلثُ أعضائها من التكنوقراط تُعطي ضمانةً للناس خصوصاً إذا استلم التكنوقراط الوزارات المتعلّقة بالاقتصاد. وحكومةٌ ثُلثا أعضائها من السياسيّين، تعطي ضمانة لحزب الله، وتهدّئ من مخاوفه. قد تقول لي: “ولماذا حزب الله فقط وليس الآخرون”؟ السبب أّنه ليس من لاعبٍ سياسيٍّ الآن إلّا حزب الله. وماذا عن الباقين؟ هُم متّكلون عليه بالتمام والكمال. هكذا حكومة تُرضي الطرفَيْن القويّيَن الآن: الشعب وحزب الله.

الخطوة الثانية بعد تشكيل الحكومة يجب أن تكون إطلاق يد القضاء من دون تردّد وليس على أساس الكيديّة السياسيّة. ليفصل القضاء بكلّ الملفّات المطروحة من الطاقة إلى الاتصالات إلى الأشغال إلى مجالس الجنوب، والإنماء والإعمار والمهجّرين. تحريك النيابات العامّة يجب أن يأتي فوراً بعد تشكيل الحكومة. والخطوة المقترحة الثالثة تتمثّل بمتابعة الحراك لتنفيذ خطّة قيام الدولة العادلة خطوةً خطوة. فإذا تأخّر بتُّ ملفٍّ، فالحراك إلى الشارع من جديد. وإذا راوغت السلطة السياسيّة، فالحراك إلى تصعيد. يتحوّل الحراك عندئذٍ إلى حكومة ظلٍّ حتّى على الوزراء التكنوقراط لكي يبقوا منزَّهين عن الوقوع في مغريات السلطة، فهُم أيضاً بشر.

السؤال الأخير: هل يفتح الثوّار الطرقات مستفيدين من استقالة الحريري؟ السلطة كانت تقول “لن أتفاوض مع المتظاهرين قبل فتح الطرقات”، لكنّ السلطة الحكوميّة استقالت الآن. المتظاهرون كانوا ينادون في البداية بإسقاط النظام. في ما بعد نادوا بإسقاط الحكومة، وإن أبقوا على شعار “كلّن يعني كلّن”. لو كُنتُ في قيادة الانتفاضة لأدركتُ أن معركتي طويلة وأنّ سبباً أساساً من أسباب نجاحها يتوقّف على دعم الناس لي. وكُنتُ أدركتُ أيضاً أنّ دعمَ الناس لي سيكون أطول مدىً وأقوى تأثيراً إنْ أنا أعطيتُهم فرصةً للتنفّس يستحقّونها. هذا لا يعني وقف الاعتصامات، ولا يعني وقف حلقات التوعية التي تجري بين المعتصمين، ولا يعني إطلاقاً تخفيف الزخم. ليستمرّ الزخمُ قويّاً، في كلّ نهارٍ وكلّ ليلة، إنّما مع فتح الطرقات الرئيسيّة أمام الناس.

عندما أكتبُ هذه الكلمات لا أدري ما هو وقعُها على السلطة والثوّار. أُدرك وأنا أكتب أنّ كلماتي لن تعجبَ الثوار بشكلٍ كامل، وأنّها قد لا تعجب أهل السلطة إطلاقاً. لكنّ مساحةً من العقل تُبقي الثورةَ في أمانٍ وترتقي بالثوّار إلى مستوياتٍ أعلى من المسؤوليّة، وهُم مسؤولون وقد برهنوا على ذلك مراراً وتكراراً حتّى الآن، وبورِكَت جهودُهم.
الثوّار لم يعودوا ملكَ أنفسهم. هُم ملْكُ لبنان واللبنانيّين جميعهم، حتّى أولئك غير القادرين على مواجهة القمع العنيف. وعندما تكون أنتَ في هكذا مكان، لا بُدّ لكَ من الانتباه من عدم الانزلاق إلى ما يشبه السلطة في تصرّفاتها، وإنّي على يقينٍ بأنّ المعتصمين لغير منزلقين.

سمير قسطنطين