الدقّة في العبارة، التماميّة أو الـ Thoroughness، وانخفاض حسّاسيّة الذات
صباح السبت بتوقيت بيروت – عبر إذاعة صوت لبنان

في كلّ مرّة آتي فيها إلى الولايات المتّحدة أروحُ أُراقبُ شيئاً ما محدّداً في طبائعِ الناس أو في أسلوب العمل في المؤسسات ومنها مثلاً “خدمةِ الزبائن”. في كلّ مرّةٍ أتطلّع إلى أمرٍ جديدٍ محدّدٍ لم أُراقبه بدقّةٍ من قبل، ولو كان عندي فكرةٌ عامّة عنه. هذا المرّة لاحظتُ كيف يتحدّثُ الناسُ إلى بعضِهم وتحديداً في الأماكن التي تزورُها كسائح، أو تأكلُ فيها، أو تسألُ فيها عن أمرٍ ما أو خدمةٍ ما أو بضاعةٍ معيّنة. لاحظتُ في تواصلِهم ثلاثةَ أمورٍ أساسيّة على الأقل.

أولاً، من الواضح أنّ في كلامِ الناس هنا دقّةٌ في انتقاء العبارة. عباراتٌ مثل عباراتٍ نستعملُها في لبنان مثل “هيدا أحسن مطعم”، أو “هيدا الموظّف ما في منّو”، أو “جرِّب هالشغلة وما بتندَم”، أو “تكّة وبكون معك أستاز” أو “روح دغري ما بتلاقي حالك إلّا وصلت” … عباراتٌ مثل هذه غيرُ موجودةٍ في قاموسِ التعامل. الناسُ هنا تنتقي العبارةَ المحدّدةَ لقولِ شيءٍ محدّد، وهي تُحجم عن استعمال أفعالٍ في الماضي أو المضارع أو الأمر لا تُعطي المعنى الدقيقَ لما تحاول قولَه للناس.

الأمر الثاني الذي لاحظتُه هو “التماميّة” في الكلام أي ما نسمّيه بالإنكليزيّة الـ Thoroughness. فإذا سألتَ أحدَهم سؤالاً مثلاً عن أمرٍ ما، فهو يعطيك إجابةً شاملة كاملة. لا يتكلّم بالألغاز ولا يراهن على أنّ اللبيبَ سيفهمُ من الإشارة. إذا كُنتَ في بهو الفندق وسألتَ أيّاً كان هناك عن مكانٍ محدّدٍ في الفندق الفسيح، تراه يقومُ عن مقعده، ويخرجُ من مكانِه، ويحاولُ أن يشرحَ لكَ بشكلٍ كامل عن الطريق التي تؤدّي إلى هذا المكان. هو لا يستعمل عبارات من مثل: “روح من هون، ومين ما سأَلِت بيدلّك”. الجوابُ دائماً شاملٌ ويغطّي كلّ المعلومات المطلوبة حتّى ولو كان الأمرُ بسيطاً.

الأمر الثالث والأخير الذي لاحظتُه في تواصلِهم هو انخفاضُ حسّاسيّة الذات أو الـ Ego. فمثلاً إذا قُلتَ لأحدِهم أنّك تعتقدُ أنّ سعرَ مُنتجٍ معيّن مرتفعٌ بعض الشيء، فهو لا يعتبرُ أنّك تهاجمُه، ولا يشعرُ بأنّه مضطرٌّ لأن يدافعَ عن نفسِه، ولا تتغيّرُ ملامحُ وجهِه، بل يجيبُك بهدوءٍ كاملٍ قائلاً كلاماً من مثل: “أنا آسف أنّي لم أستطِع أن أُلبّي كلَّ تطلعاتِك. كيف أستطيعُ أن أخدمَكَ بشكلٍ أفضل”؟ هو يربطُ كلامكَ بالمُنتَج وليس فيه، ولا يعتبرُ أنّك تجرحَه شخصيّاً ولا يشعر بأنَّ عليه تبرير ارتفاع سعر منتجٍ ما. ذهنُه مُدرَّبٌ بأن يجيبَ على السؤالٍ بطريقةٍ واحدةٍ فقط هي المساعدة على إيجادِ حلٍّ. هو لا يحاربُ المشكلةَ ولا يتهرّبُ منها بكلامٍ من مثل “أستاذ هيدي أسعار المحل. نحنا بضاعتنا من برّا، وفي أرخص عند غيرنا”. الـ Ego أو الذات لا تتحرّك في هكذا أحوال. فقط العقل يتحرّك. العقلُ عنده يواجه المشكلة بهدف محاولةِ إيجاد حلٍّ لها.

ثلاثةُ أمورٍ جديدة لاحظتها هذه المرّة بتمعّنٍ في سفري إلى أميركا هي: الدقّة في العبارة، التماميّة أو الـ Thoroughness، وانخفاض حسّاسيّة الذات.

سمير قسطنطين