عندما يغيب “العيب” ولا يُطبَّق القانون
عبر إذاعة صوت لبنان

من أين جاء العنوان الذي قد يبدو غريباً؟ هو أتى من التّرحال في بلادٍ عدّة، ثقافاتُها المجتمعيّة متنوّعة إلى حدِّ الاختلاف الجذري. في بلدٍ مثل لبنان، حيث يغيبُ القانون في مطارح ومواضع عدّة تتعلّق بحياتنا الاجتماعيّة، يتوقّف تصرّفنا في حالاتٍ معيّنة على مفهوم “العيب”. فمثلاً، إذا رأيتَ موظّفاً حكوميّاً يعمل في دائرة من دوائر القطاع العام ولا يرتشي، فهو لا يرتشي بسبب شعورِه بـ “العيب” إنْ هو فعلَ ذلك وليس بسبب القانون الذي يمنعُ الرشوة. هو يعرفُ انّه إذا ارتشى، فإنّ أحداً لن يحاسبَه في لبنان. لكنّه يمنع نفسَه عن قبولِ الرشوة، لأنّ في سلّم قيَمِه المجتمعيّة، تمثّل الرشوةُ عيباً لا يقوى هو على احتمال تبعاتِه. لكن، إذا كان صديقُنا هذا يعيش في الولايات المتّحدة مثلاً، فإنّه يمتنع عن الرشوة بسبب قوّة القانون وحتميّة تطبيق القانون الذي يمنع الارتشاء. قد تجدُ شخصاً هناك يتمنّى في قرارةِ نفسِه أن يقبلَ الرشوة، وقد تجدُ شخصاً آخر يرغبُ في تقديمِ الرشوةِ إلى أحدِهم كي يحظى بإعفاء من ضريبةٍ هنا، أو مفاضلة في المعاملة هناك. لكنّهما يمتنعان عن ذلك بغضِّ النظر عن سلّم قيمِهِما، خوفاً من قانون معاقبة المُرشي والمرتشي. في بلدٍ مثل لبنان، يحلّ مفهوم “العيب” مكانَ القانون مع أشخاصٍ كُثُر وفي مجالات متعدّدة، في وقتٍ ترى مفهوم “العيب” في بلدان كثيرة وخصوصاً الغربيّةِ منها آخذاً بالتلاشي وبسرعة ليحلَّ مكانه القانونُ كفاصلٍ في الأمور. منذ عقودٍ أربعة فقط، أي منذ زمنٍ ليس ببعيد، كانت المجاهرةُ بالمثليّة في الولايات المتّحدة تمثّل “عيباً”، وكان أكثر من نصف سكّان أميركا رافضين لفكرة المثليّة. وكان رجالُ الدين هناك يجاهرون بإدانتهم للمثليّة طبعاً مع تفهّمهم لحقوق المثلي كإنسان وكمواطن. لم يكُن القانون يحمي المثليّين كما يحميهم الآن. كانت بعض المؤسّسات تمتنع بطرق ذكيّةٍ في بعض المرّات عن توظيفِهم. مع الوقت، بدأت تسقط فكرة “العيب” عن المثليّة والمثليّين. عندها بدأوا نضالَهم مجاهرةً لتعديل القوانين. قبل أن تسقط فكرة “العيب”، لم يجاهروا بقوّة بما أسموه “حقوقهم”. عندما سقطت فكرة العيب جاهروا، إلى أن وصلوا إلى قراراتٍ لم تكن أميركا تحلم بصدورِها قبل أربعين سنة ومنها شرعيّة زواج المثليين وحقّهم في تبنّي الأولاد. في لبنان، المثليّة جرمٌ يعاقب عليه القانون. قبل عقدين فقط، كان المثليّون يخفون ميولَهم بالكامل تقريباً وذلك بسببِ شعورهم بـ “العيب”، أكثر مما كانوا يفعلون ذلك خوفاً من القانون. وكان من يمارس اللواط في نهاية التسعينات، يُعاقَبُ كمن يمارس الدعارة بين الجنسَيْن. الآن، القانون اللبناني لم يتغيّر كثيراً. لكن الذي تغيّر هو مفهوم “العيب”. الآن بتَّ ترى مثلييّن في كلِّ مكان يجاهرون بمثليّتِهم. القانون ما زال ضدّهم، لكنّ “العيب” سقط. باختصار، في الغرب، وفي أيِّ مجال وفي أيّة ممارسة، فإنّ مفهوم “العيب” لم يعُد موجوداً. أنتَ حرٌّ بأن تفعل ما تشاء إذا كان القانونُ لا يمنعك عن ذلك. لم يعُد “العيب” معياراً في القرار الذي تتّخذه لحياتك.
الذي يخيفُني للبنان المستقبل، هو أن تسقط كلُّ مفاهيم “العيب المجتمعي” واحداً تلو الآخر، فيما يستمرّ غيابُ القانون. الذي يحمينا الآن من أنفسِنا في مواضيع السرقة والرشوة وتناول الماريجوانا والعلاقات الملتبسة والاعتداء على الأملاك العامّة والامتناع عن دفع الضرائب وعدم احترام قوانين السير وغيرها هو مفهوم “العيب” أكثر مما يحمينا دور القانون. ماذا لو سقَطَت كلُّ مفاهيم “العيب” وبقي القانون وجهة نظر في لبنان؟ كارثة.

سمير قسطنطين