سمير جعجع ذكي … وسليمان فرنجيّة فارسٌ نادرٌ يغلبُ ذاتَه
عبر إذاعة صوت لبنان
ما حصَل في بكركي هذا الأسبوع لافتٌ. كُتِب عنه الكثير في السياسة والوجدان. لكنّي اليوم أُريد أن أقرأَ في الرجُلَيْن المتصالحَين، سمير جعجع وسليمان فرنجيّة، وما لفَتَ انتباهي فيهِما.
في جعجع لفتني ذكاؤه، ليس في المصالحة فقط، بل في ما دأبَ على فعله منذ زمن. في العام 2005، خرجَ الرجلُ من السجن. كان سمير جعجع بنظرِ كثيرين ذا صورةٍ بشعة. فهو بنظرِ هؤلاء، وهُم لم يكونوا قلّةً آنذاك، هو الذي نفّذَ حادثة إهدن، وساهمَ في تهجير المسيحيين من الشوف وشرق صيدا، واغتالَ رشيد كرامي ولاحقا داني شمعون، وقاتَل الجيش في نهايةِ الثمانينات، وساهمَ في إدخالِ الجيش السوري إلى “المنطقة الشرقيّة” كما كانت تُسمّى أبان الحرب، وفجّر كنيسة سيّدة النجاة، وعادى أكثر من نصف المسيحيّين وغالبيّة اللبنانيّين. هكذا كان بنظر الكثيرين. لكنّه ومنذ لحظة خروجه من السجن، بدا وكأنّه اتّخذ قراراً استراتيجيّاً بتغيير الصورة. لم يضيّع وقتاً في تبريرِ نفسِه أمام الناس. انطلق إلى ورشة عملٍ كبيرة وبشكلٍ دؤوب. لم يهدأ يوماً. استفادَ من كلّ لحظة وحوَّلها إلى فرصةٍ لتغيير الصورة. خَلَق لنفسِه صورةً مغايرة لما كان يُقال عنه أو يُتّهم به. وفجأةً، وفي العام 2014، أي بعد تسع سنواتٍ من خروجه من السجن، حجَز لنفسه موقعاً في نادي المرشّحين لرئاسة الجمهوريّة. لم يعُد “خرّيج حبوسي” كما نقول بالعامّية بل مرشّحاً قويّا لرئاسة الجمهورية ينالُ في الدورة الأولى 58 صوتاً. ليس ذلك فحسب بل انطلق نحو كلّ من خاصمَه أو عاداه يصنع صُلحاً. بنى جسور ثقةٍ مع وليد جنبلاط، عدوّ الأمس اللّدود. بنى جسراً مع السنّة من خلال آل الحريري، وهو المتّهم بقتل أحد رؤساء الحكومة السنّة السابقين، رشيد كرامي. هادنَ بشكلٍ لافت الرئيس نبيه برّي، الحليف الأكبر لحزبِ الله، ولَم يتعرّض له بكلمة على الرغم من عدم انتخاب جعجع لبرّي رئيساً للمجلس في الدورة الأخيرة. ليس ذلك فحسب بل انطلق نحو أعدائه الألدّ بين المسيحيّين وتحديداً الرئيس ميشال عون والوزير سليمان فرنجيّة. وقّع مع ميشال عون اتفاق معراب الذي أبرأ جعجع على الساحة المسيحيّة، وقبل أيّام صافحَ سليمان فرنجيّة مُنهياً أربعة عقودٍ كاملة من العداوة بعد حادثة إهدن. من يفعل كلّ هذه الأمور بوقتٍ قياسي؟ من يقدر أن يحوّل أعداءَه إلى خصوم، وخصومَه إلى حلفاء؟ لا يفعل ذلك إلّا رجل ذكي. قد تحبّ جعجع في السياسة وقد لا تحبّه، لكنّ أحداً لا يستطيع أن يُنكر أنّ هذا الرجل استطاع تغييرَ الكثير في صورتِه المطبوعة في أذهان الكثيرين تغييراً كبيراً، وبيّضَ صفحتَه. هذا الأمر لا يحقّقه إلا رجل ذكاؤه استراتيجي.
وماذا عن سليمان فرنجيّة؟ هذا فارسٌ نادرٌ. هو حرٌّ بقدر ما هو ملتزمٌ بكلمته. لا يوقّع اتفاقاً لأنّه يلتزم من دون توقيع. خصومُه في السياسة يحترمونه. ما فَعله في بكركي قد لا يتمنّاه حلفاؤه الدائمون. السوريون وحزب الله قد لا “يبلعونها” وإن كانوا لم يعلّقوا سلباً على الحدث. ما فعَله سليمان فرنجية هذا الأسبوع لا يقدّم له شيئاً في السياسة. الحدث يُعطي سمير جعجع أكثر بكثير ممّا يعطي فرنجيّه، لكنّ هذا الأخير أرادَه من كلّ قلبه ووجدانه. المصالحةُ لا يمكنُ صرفَها في السياسة عند فرنجيّة، فالانتخابات الرئاسية بعد أربع سنوات، وليس في الأفق انتخاباتٌ بلديّة أو نيابيّة. وحتّى ولو كانت انتخابات الرئاسة قريبةً، فجعجع لم يعطِه وعداً بانتخابه. سليمان لا يطلبها أصلاً. هو فارسٌ لم يُرِد أن يورث أولادَه ومنطقتَه هذا الصراع مع القوات ومع جعجع بالضبط. هو قوي، يستطيع أن يُقدِم وأن يصالِح، لكنّ العداوةَ كانت ستكون عبئاً ثقيلاً على نجلِه طوني إنْ هو أورثَه تبِعات جُرح إهدن. طوى الصفحة وهو قويٌّ وموجود. فرنجيّة تصرّف كزعيم وطني ومسيحي. الغفران كان عنواناً كبيراً. من يستطيع أن يغفرَ لمَن شاركَ في حادثةٍ أليمة وغير مبرّرة كانت مكلِفةً لفرنجيّة إلى هذا الحد؟ من يستطيع أن يغفر لجهةٍ أقلّ ما يُقال فيها أنّها كانت هناك شخصيّاً على رأس قوّةٍ مهاجِمة في حادثةٍ أفقَدَت فرنجيّة أختاً طفلةً وأباً زعيماً وأُمّاً؟ هو المقتول بغض النظر عمّن هو القاتل. من يقدر على الغفران في هكذا حال؟ هذه هي المسيحيّة، والمسيحيّة لا يقدر أن يعيشَها إلا الفوارس. وفي الأمن كذلك، هذه المصالحة لا تُعطي فرنجيّة شيئاً. فالأرضُ هادئة منذ سنوات وهناك لجانُ تنسيقٍ على الأرض في كلّ القرى التي فيها مناصرون للطرفين. غلّب فرنجيّة العقلَ على العاطفة. ففي العاطفة تصعبُ عليه المصالحة مع سمير جعجع. تصرّف بقيَمٍ مسيحية وبسياسة مسيحيّة ولبنانية في آنٍ معاً. هو شاءَ أن يُنهي ملفّاً عالقاً ثقيلاً من ملفّات الحرب. ليس ذلكَ فحسب، بل أراد المصالحةَ برعاية الكنيسة عن قصد. أعطى دوراً لبكركي وأصرّ على رعاية البطريرك. كان بمقدورِه أن يفعلَها من دونه. لكنّه أعطى دفعاً لبكركي. قرارٌ عقلاني بامتياز. كان بإمكان سليمان فرنجيّة أن يعيش حقداً على سمير جعجع ليس بسبب إهدن فحسب. فلنتذكّر الماضي القريب جداً. قبل ثلاث سنواتٍ فقط، قطعَ جعجع طريق الرئاسة على سليمان فرنجيّة وصالحَ عون. لكنّ فرنجية لا يعيش الأحقاد. هو يُدرك تماماً أنّها تدفنُ حاملَها وهو حيّ.
قوّة سليمان فرنجيّة ليست في غفرانه وإن كُنتُ شخصيَاً أنحني أمام قدرتِه على فعل ذلك. قوّتُه ليست في فروسيّته وحسب. قوتّه ليست في حرّيته مع حلفائه، وهُم خصوم جعجع. قوّةُ سليمان فرنجيّة تكمنُ في أنّه فارسٌ نادرٌ استطاع أن يغلبَ ذاته. نعم سليمان فرنجيّة غَلَبَ سليمان فرنجيّة، ومن يقدر أن يفعلَ ذلك في زواريب الأحقاد السياسيّة اللبنانيّة؟
سمير قسطنطين