
:اعترافات محدّثي في نهاية العام
لو عاد بيَ الزمنُ خمسين سنة إلى الوراء
عبر إذاعة صوت لبنان
هي نهاية السنة. جلستُ إلى محدّثي أُصغي لحكمِه. يجذُبُني حديثُه في كلِّ مرّةٍ ألتقيه. سألتُه: “ما جديدُك”. قال لي: “في مرّات كثيرة أسمع أشخاصاً يقولون كلاماً مثل هذا الكلام: “لو بيرجعْ الزمن لوَرا كِنتْ بعمل زات الإشيا بِزات الطريقة”. وأضاف: يقولونها بنبرةٍ فيها تحدٍّ وحدّة. أتأمّلُهم وأسألُ نفسي: أإلى هذا الحدّ يمكنُ لإنسانٍ ما أن يكون صائباً في كلِّ خياراتِه وقراراته طوال حياته؟ ألا يعقُل أن يكون قد أخطأ في مكانٍ ما في قرار استراتيجيٍّ ما في حياته؟ أَلَم يتعلّم شيئاً من خياراتٍ أخذَها فأفقَدته سلامَه الداخلي لسنواتٍ”؟
سألتُه: “وكيف تختلف قصّتك مع الحياة عن قصص الآخرين”؟ أجابني: “لقد علّمتني هذه الدنيا دروساً أعتبرها الآن ثمينة، ليتَ كلفتَها كانت أقل”. طلبتُ إليه بإلحاح: “هات أخبرني ماذا كُنتَ لتفعل”؟ قال وهو يتنهّد: “لو عاد بي الزمن خمسين سنةٍ إلى الوراء، لَما سمحتُ لنفسي أن أكونَ في مكانِ العملِ جزءاً من أيِّ نزاعٍ محوري.” قُلتُ “لماذا”؟ أجاب: “في المؤسّسات، كبيرةً كانت أم متوسّطةَ الحجم، هناك إمكانيّةٌ متكرّرة لصراع المحاور أو قُلْ الدوائر أو لصراعٍ بين مواقع القرار الرئيسة. تكونُ أنتَ في مطلع حياتِكَ المهنيّة، تشعرُ أنّك تريدُ أن تغامرَ مع رئيسِك في هذا النزاع. تطمعُ بمنصبٍ أعلى أو سلطةٍ أوسع نتيجةً لضربِكَ بسيفِه. الآن أنظرُ إلى الوراء وأقول: “هذا وهمٌ بوهمٍ”.
قُلتُ له: “وماذا أيضاً كان سيتغيّر لو عاد بك الزمن إلى الوراء”؟ قال محدّثي وهو لبِقُ الكلام والأداء: “لو عاد بيَ الزمنُ خمسين سنةٍ إلى الوراء، لما تحمّستُ لزعيمٍ سياسي إلى حدٍّ لا أعودُ بعده قادراً على نقدِه، وَلَما تحمّستُ لأحدٍ من السياسيّين لدرجةٍ أكرهُ فيها أصدقاء وأحباء. لا لما كُنتُ وصلتُ إلى حدِّ التضحية بنفسي وبحياتي من أجل أحلامِه لأكتشفَ بعد سنوات كيف تبدّلَ هذا الزعيم وغيّر خياراته وتحالفَ مع من عاديتُه من أجلِه هو ومن أجل خياراته هو. حقّاً الأشخاص يتبدلون، وتشعر فجأةً أنّك غامرتَ كلّ هذه المغامرة في عالمٍ أقلّ ما يقالُ عنه أن “السياسة ما إلها رب”.
سألته: “وماذا أيضا”؟ قال لي: “لو عاد بيَ الزمنُ خمسين سنةٍ إلى الوراء، لما دخلتُ في علاقة معقّدة وصعبة. في حينِها قد تشعرُ أنّ العالمَ كلّه بين يديك، وأنّ الفرحَ الحقيقي قد حلّ موعدُه لتفهمَ بعد سنواتٍ ما غنّتهُ فيروز “أهواك … أهواكَ بلا أملِ … في الظلمةِ يكتئبُ و يهدهدُه التعبُ”. في ذلك الزمن كنتَ تغنّي “ترِكنا غلطانين” وكان وائل كفوري أنيسَ مخيّلتِكَ، لكنّك بعدَ سنواتٍ تدركُ أنّ العلاقةَ المعقّدة من دون أيّ باب أملٍ بتطويرها تشبهُ السراب”.
قال محدّثي هذا الكلام في ما كُنتُ ألحظ في عينيه رغبةً في الكلام أكثر. قلتُ له: “أُريد نصيحة أخيرةً”. قال: “لو عادَ بيَ الزمنُ خمسين سنةٍ إلى الوراء لحاولتُ أن أعيش حياةً أكثرَ توازناً بين مقوّماتها وما كُنتُ لأنتظرَ عقوداً طويلةً تمضي قبل أن أوازنَ بين متطلّبات النجاح في العمل والعائلة والإيمان والمرح والصحّة”.
شعرتُ بشيء من الحزن الرصين في عينيه. وقبل أن أسأله إن كان شعوري صادقاً أم لا، قال مختتماً: “لو عاد بي الزمنُ خمسين سنة إلى الوراء، لو عاد، لو عاد، لو عاد !!! لكنّه لن يعود”.
ذهبتُ من عنده متأمّلا بما قاله. قصّته تشبه قصص كثيرين، لكنّه ربما كان أكثر جرأة من غيره. أتُراها هذه هي الدنيا؟ أنتَ تختبرها بـ “المفرّق” وتستنتجُ دروسها بـ “الجملة”؟ هي لا تأتيكَ معلّبةً بل أنتَ تقطفُ عبرَها حرفاً حرفاً. كل نهاية عام والجميع بخير.
سمير قسطنطين