الكنيسةُ ومكافحةُ الفساد: الصوتُ الخافت
عبر إذاعة صوت لبنان

مكافحةُ الفساد باتَت على كلّ شفةٍ ولسان. المشكّكون كُثُر، لكن يبدو أن شيئاً ما بدأ يتغيّر. قيادة قوى الأمن الداخلي كانت سبّاقة في التحقيق مع ضبّاطٍ وعناصر تدور حولهم شُبهات الفساد. لكنّ الكلامَ الأعلى وتيرةً جاء على لسان حزب الله. لم يكُن أحدٌ يتوقّع أن يكونَ الأمرُ كذلك، لكنّه حصل. قد يأخذُ عليهم البعض أنّ الصوتَ العالي للنائب حسن فضل الله ذهبَ باتّجاهٍ واحد. ربّما … لكنّ صوتَه في مكافحة الفساد كان أعلى من صوتِ تيّاراتٍ وأحزابٍ أخرى كثيرة. قد يسأل البعض: “وماذا عن حلفاءِ الحزب من الفاسدين؟ هل سيجابهُهم الحزبُ أيضاً”؟ أعتقد أنّ جوابَ الحزب على هذا السؤال يتمثّل في طريقةِ تعاطيه مع نائبِه نوّاف الموسوي الذي أخطأ. ما الذي يبرّر كلَّ هذه القساوةِ في التعاطي مع الموسوي؟ كأنّي بالحزب يقول: “إذا كُنتُ قاسياً إلى هذا الحدّ مع أحد أعضائي إذا أخطأ، فلا تقلقوا لجهة تعاطيّ مع حلفائي في موضوع الفساد“.

الكنيسةُ عبر التاريخ لم تتجانس مع الفساد، وإن وقَعَ أبناؤها فيه في أماكن عدّة وأوقاتٍ كثيرة عبر الزمن. مكافحة الفاسد بدأت في وصيّة “لا تسرق” ولم تنتهِ في الوثيقة الفاتيكانيّة بشأن مكافحة الفساد التي صدرَت في صيف الـ 2017 في إثر أعمال مؤتمرٍ دولي عُقِد في الفاتيكان. الكنيسةُ تركت بصمةً كبيرة في حياةِ الدول التي حاربَت الفساد تاريخيّاً، فمِن أكثر الدول التي نجَحت في مكافحةِ الفساد وتقليلِ انتشارِه في الشأن العام هي الدول التي كان للكنيسةِ فيها حضورٌ قويٌّ عبر العصور، وإن اتّجهت هذه الدول في القرن الماضي نحو العلمانيّة في طريق إدارتها لشؤون الدولة.

في لبنان، صوتُ الكنيسة في مكافحة الفساد موجودٌ لكنّه لا يُسمع بوضوح دائماً. هو صوتٌ خافتٌ في مرّاتٍ كثيرة. ليس الصوتُ صارخاً. طبعاً الكنيسةُ تتكلّم في أكثر من مكانٍ وزمانٍ عن الفسادِ بكلّ أشكاله وخصوصاً الفساد السياسي الذي يتمثّل في حالات انتهاك مبدأ النزاهةِ وقيمِها ومعاييرها، وباستخدامٍ لسلطاتٍ مشروعة من قِبَل مسؤولين حكوميين لغرض تحقيقِ مكاسب خاصّة غير مشروعة. لكنّي أرغب، ومعي يرغب كثيرون، في أن تكونَ الكنيسةُ في لبنان أكثرَ وضوحاً في موقفِها حيالَ إساءةِ استعمال السلطة العامة أو الوظيفة العامّة للكسب الخاص، أكان ذلك متمثّلاً بالرشوة أو الابتزاز أو المحسوبيّة أو الاختلاس أو غسيل الأموال أو التهرّب من الضرائب أو الاتّجار بالبشر أو التزوير أو أيّ أمرٍ آخر من هذه الأمور. لِيَكُن الصوتُ صارخاً وليتردّدْ صداه في عمق الضمير العام عند المسلمين والمسيحيّين على حدٍّ سواء.

صحيحٌ أنّ التحقيقَ في شؤون الفساد هو مهمّةُ القضاء، لكنّ الكنيسةَ قادرةٌ على أن تضغطَ وفي كلّ مكانٍ على القضاء للتحرّك بفعاليّة أقوى وضدّ كلّ الفاسدين لحمايةِ المواطنين. على الأقل، تستطيعُ الكنيسةُ بصوتِها المسموع أن تساعدَ القضاء على القيام بمهمّاته، وكأنّها تقول له: “إذا كان هناك سياسيٌّ أو قاضٍ أو أيّ مسؤولٍ مسيحي فاسد، فلا تتلكّأوا في محاسبته”. وهذه تغطيةٌ غير مباشرة أيضاً لمحاكمة الفاسدين من الطوائف الأخرى.

صوتُ الكنيسةِ في مكافحة الفساد لا يجوز إطلاقاً أن يكون خافتاً.

سمير قسطنطين