يُقلِقُني غيابُ الحضورِ المفكِّر من حول السياسيّين في لبنان، فمعظم السياسيّين لا يركنون إلى مفكِّرين يساعدونهم في اتّخاذ القرارات الاستراتيجيّة أو قُلْ الأساسيّة. وعندما تنظرُ إلى الشخصيّات الموجودة حولَ الزعيم، ترى في كثيرٍ من الأحيان منتفعين أو آخرين لا قدرةَ لهم على التفكير.

في المقابل، كثيراً ما ينظرُ المثقّفون إلى الشأن العام على أنّه أمرٌ غريبٌ عنهم. فالعمل بالشأنِ العام لا يُرضيهم، ولا يناسبُ قيَمَهُم، ولا يجذبُهم لأنّه بنظرِهم ملوّث. لذا ترى النُخبة المثقَّفة منصرِفةً إلى تحصيل لقمةَ العيشِ، يحاول ناسُها أن يعيشوا بسلامٍ مع عائلاتِهم، وإنْ تعاطَوا بالسياسة، فهُم يتعاطونها من “بعيد لبعيد”، يكتفون ببعض النقدِ هنا والتمنّيات هناك لا أكثر ولا أقل.

في بلدانٍ عدّة تشارك الإنتلجنسيا في عملٍ ذهنيٍّ معقّد يهدفُ إلى تقديمِ توجيهٍ رؤيويٍّ لقادة البلاد، وإبداءِ نقد لأداءٍ عام غير مرضي. بالتالي هُم يلعبون دوراً قياديّاً في تشكيل ثقافة المجتمع وسياستِه. هُمْ يساهمون بدفعِ المجتمعِ إلى مستوياتِ تقدُّمٍ كبيرة، ويعملون على تعزيز حركاتِه المتخلفة.

في لبنان، يقلقُني هذا الموضوع كثيراً لأن حياتَنا وحياةَ أولادِنا هي بين أيدي سياسيّين قد ينفعِلون بسبب شخصيّاتهم أو بسببِ تراكمِ الأحداثِ وتسارعِها، وقد يتّخذون قراراتٍ تأتي بالوبالِ علينا وعلى أولادِنا وعلى الوطن. أقلَقُ عندما أتطلّعُ إلى الأحزاب وأراها شبهَ خاليةٍ من الإنتليجنسيا. وإذا رأيتَ هؤلاء هناك، فإنّك تراهم في بعض الأحيان وقد انخرطوا للأسف في لعبة القوّة والتجاذبات الحزبيّة الضيّقة، وباتوا يتوسّلون الزعيم تعيينَهم في مواقع معيّنة في الدولة. في المقابل، وفي المطبخ الداخلي للأحزاب، يستميتُ بعض “الزويعميّين” في مرّاتٍ كثيرة لإبعادِ مفكّرٍ أي Intellectual عن الزعيم. يخافون منه ومن قوّة ذهنِه وأفكاره “القدّاحة”، ويهابون عفّته السياسيّة إذا جاز التعبير. لكنّ قلقي الأكبر يبقى عدم اكتراث الزعيم السياسيِّ لضرورة إحاطة نفسه بمفكّرين محترَمين.

يفرحُني ويحزنُني في آنٍ معاً أن تتلفّتَ حولك فترى شخصيّاتٍ لبنانيّةً مرموقةً وَجَدَت لها مكاناً تنافسيّاً في المجتمع الدولي ومؤسّساتِه، لكنّ أحداً في لبنان لا يسمّيها لتولّي مسؤوليّة عامة. قبل فترة من الزمن، عُيِّن الوزير السابق جهاد أزعور مديراً لإدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي. أخبِروني على أيّةِ لائحةٍ نيابيّة سيترشّح أزعور بعد سنتين. طارق متري الذي شغلَ منصبَ ممثّل الأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا، أخبِروني من في لبنان مهتمٌّ بتوزيره. غسان سلامه الذي شغلَ ولفترةٍ طويلةٍ منصبَ ممثّل الأمين العام للأمم المتّحدة في العراق، وكاد يُقتل هناك في تفجيرٍ انتحاري، من يسأل عنه في لبنان؟

لم يكُن الوضع هكذا في أوقاتٍ سابقة. فـ “الجبهة اللبنانية” التي انطلقت في المنطقة المسيحيّة في حرب السنتَيْن كان فيها عمالقةُ فكرٍ من مثل شارل مالك وفؤاد أفرام البستاني وإدوار حنين وجواد بولس. كان المفكّرون – الإنتلجنسيا عمادَ الحركةِ السياسيّة للجبهة اللبنانيّة آنذاك. هؤلاء كانوا إلى جانب السياسيّين في ذلك الزمن أمثال كميل شمعون وسليمان فرنجية وبيار الجميل. زعماءَ تِلكَ المرحلة لم يستحوا بوجود النُخبة المثقّفَة حولهم ولم يخافوا منها. اليوم، كلُّ ما يطلبُه بعض الزعماء من الذين حولهم هو “الولاء” فقط. حتّى الكفاءة ليست أولويّة، ناهيك عن عدم أولويّةِ قوّة الحضور الفكري.

أين هُم المفكّرون اليوم حول رجالِ السياسةِ أكانوا مسيحيّين أم مسلمين؟؟!! ألا يقلقكَ أنّ هؤلاء ليس لهم مكانٌ في كلّ العمليّة السيّاسيّة والنقديّة والاقتصاديّة التي تجري الآن؟ّ! حرامٌ في بلدِ جيشِ المتعلّمين هذا ألا نرى هؤلاء يتعاطون الشأن العام، وألّا يتعرّف عليهم أولادُنا من على شاشاتِ التلفزيون، وأن يبقى البعض الآخر يجلدُنا كلَّ ليلةٍ ببخّ سمومٍ من هنا، وتحريضٍ من هناك، وتفاهةٍ في كلِّ حين.

أين الإنتلجنسيا في هذا الوقت وكلّ وقت حول السياسيّين؟

سمير قسطنطين – “وزنات”

عبر إذاعة صوت لبنان