ثورة الناس ثورة عفويّة، ثورة غير مشغولة. نبضُ الشارع قوي، حقيقي، وصادق. الناس طيّبون. الزعماء على اختلاف مذاهبهم وميولهم السياسيّة لا يريدون هذه الثورة، لكنّها أكبر منهم، أو قُلْ هٌم أصغر منها على ما يبدو.

جمهور تيار المستقبل في البيت، جمهور حركة أمل في البيت، جمهور التيار الوطني الحر في البيت، وجمهور حزب الله في البيت. ومع ذلك فإنّ التحرّكات ملأت الساحات وعمّت المناطق. هناك حالة إرباك كُلّي أو جزئي عند الزعماء. ظهروا عاجزين بعيون الناس. لم يطلّوا من خلال الإعلام. ليس لديهم ما يقولونه. بدوا مرتبكين، عاجزين، هاربين، أو منتظرين عجيبةً تُقنع الشارع بالعدول عن رأيه. حتّى استقالة وزراء القوّات اللبنانيّة لم تكن ذات معنى برأيي. لم تكن مربوطة بخارطة طريق أو بمشروعٍ وطني. كانت ردّة فعل.

الوحيدان اللذان تحدّثا أمام الكاميرا كانا الرئيس سعد الحريري والوزير جبران باسيل. لم يقولا شيئاً. لم يكن ذا معنى أن يقول رئيسُ حكومةِ بلدٍ ينهار: “منذ أشهر، ننتظر شركاءنا في الوطن والحكومة أن يسيروا في الحل الذي اتفقنا عليه، لكنهم ماطلوا بحيث لم يبق مماطلة لم يقوموا بها”. ولم يكن مقنِعاً أن يقول رئيس أكبر تكتّلٍ في الحكومة: “التظاهرات ليست موجهة ضدنا”. ويبدو أنّ كُلاً من الحريري وباسيل لزّما إدارة الأزمة أو الـ Conflict Management إلى سماحة السيّد. أهلُ النظام استقالوا من المواجهة استقالةً جماعيّة. لكن وللأسف يبدو أنّ سماحتَه لم يكُن موفّقاً هو الآخر في إدارتها. أصلاً هي كرة نار لا يُحسد على إدارتها أحد. حاول سماحة السيّد أن يفصل بين الأشخاص والنهج وطرحَ للحلّ معادلةً Formula قائمةً على فكرة واحدة: “نغيّر النهج ونُبقي على الأشخاص”. لكنّ الشارع لم يقتنع. وأعتقد أن الشارع لم يحب كثيراً كلمته حين قال ما معناه: “لا أحد يرغب في أن يأتي اليوم وننزل فيه إلى الشارع وعندها سنغيّر كلّ المعادلات”. اعتبروه تهديداً، وإنّي وبصدقٍ أعتقد أنّه ما أراده كذلك، لكنّ هذا ما فُهِم.
أعتقد أنّ لا سلاحاً ولا حزباً ولا قوّةً ينفع الآن. حتّى السلاح لا يُفيد. يُستعمَل ضد من؟ ضد جمهور المقاومة الذي في الشارع؟ قسمٌ كبيرٌ جداً من المتظاهرين هُم من الشيعة. هُم ليسوا ضد المقاومة. هُم أبناء موسى الصدر. ومن قال أن جمهور المقاومة بين المسيحيّن حتّى قليلٌ؟ لعلّ العاملَ الذي فاجأ الجميع هو هذه المشاركة الشيعيّة الكثيفة. ليس ذلك فحسب، فالعامل الأكثر خطورةً بالنسبة للعنصر الشيعي المستجد هو حجم الإحباط أي الـ Frustration الموجود في الشارع حيال الحركة والحزب معاً. كثيرون كانوا يعتقدون أنّ الشارع الشيعي يعيش زاهياً بانتصاراته في لبنان وسوريّا، وأنّ هذا الشارع طوباوي إذا جاز التعبير بمعنى “إنّو يا جبل ما يهزّك ريح”. لكن حسابات البيدر والحقل لم تتطابقا هذه المرّة وهذا أيضاً مفاجئ. يبدو أنّ الاستياء في الشارع الشيعي أكبر بكثير ممّا كنّا جميعاً نظن.

الأسبوع الذي بدأ اليوم سيكون صعباً على الجميع. صعباً على أهل السلطة، وصعباً على الشارع. السلطة لا يمكنها ترحيل اقتراحات الحلول إلى أسبوعٍ آخر، ولا يمكنها أن تلزّم الشارع للمندسّين بسهولة بعد الآن. الشباب في الساحات واعٍ. ولا يمكن للسلطة أن تقوم بأعمال تجميلٍ لوجهها المشوّه. البوتوكس لن يفيد. والجراحة التجميليّة محفوفة بالمخاطر. كذلك فإنّ الشارع، وأُصر على كونه عفويّاً، فهو من جهة لا يمكنه التراجع، ومن جهة أخرى لا يمكنه التصعيد أكثر من دون خارطة طريق. تقديم الحلول الإضافيّة أو البديلة ليس سهلاً عليه. فليس له قيادة موحّدة ولعلّ ذلك أفضل له في الوقت الحاضر. يكفي للشارع أن يقوم حاليّاً بثلاثة أمور و”كتِّر خيرو”: أن يمنع السياسيّين من خطف تحرّكه، وأن يمنع المندسّين من تشويه هذا التحرّك، وأن يبقى عابراً للمذاهب. أكثر من ذلك ليس مطلوباً منه الآن. لكن إذا ذهَبَت الأزمة إلى تصعيدٍ أكبر، سيكون مطلوباً من الشارع أن يطرح تسويات ممكنة Compromise وأن يُقدّم تنازلات، وذلك على قاعدة خلق من نسمّيه بالـ Win-Win Solutions. أعلمُ أن تعبير “تسوية” لا يروق للشارع في هذه اللحظات. لكن في علم إدارة النزاع وحلّ النزاع، يبدأ الطرفان من مكانَين قد يبدوان ثابتينَ لا بل “متحجّرَيْن” في البداية. لكنّك في مكانٍ ما، أنتَ تأخذ الحل، أو أن الحلّ يأخذكَ، إلى مكانٍ ثالث لا يطابق بالتمام المكان الذي بدأتَ التفاوض منه. أخشى أن يكون الشارع في مكانٍ لا يعرف ما هي البدائل، وأن تكون الحكومة في مكانٍ لا تدري فيه أنّ الشارع بات غيرَ قادرٍ على الانتظار. هي ليست مرحلة عضّ أصابع. هي مرحلة عنوانها “من يُنقذ نفسه والبلد من الأسوأ الآتي”. السياسيّون لم يكونوا مصدقّين حتى ليل الخميس – الجمعة أنّهم أضعف من الشارع إلا إذا رغبوا بارتكاب مجازر لا سمح الله، تماماً مثل ما حصل في العراق قبل أسبوعين. الناس فاجأتهم. أو أنّ السياسيّين كانوا مدركين، لكنّ الذين حولهم طمأنوهم مرّاتٍ كثيرة أنّ الناس “تعشقهم”. لم تنتبه حركة أمل أنّ الناس لم تعد تنظر إليها كـ “حركة محرومين” حيث هي بدأت. ولم ينتبه التيار الوطني الحر أنّ قاعدة “الإصلاح والتغيير” لم تكن واضحة في نهجه الحكومي، ولا يُفيده الآن القول أنّ الشركاء لم يساعدوه. وفاتَ الرئيس سعد الحريري أن يُدرك أنّ “تيَار المستقبل” لم يأخذ الناس إلى مستقبلٍ واعد.

اليوم ستأخذ الحكومة قرارات، هذا طبعاً إذا انعقدت الجلسة. القرارات قد تكون نوعيّة وستفاجئ اللبنانيّين. لكن وإن كانت كذلك، وهي قد لا تكون كذلك، ستكون مرفوضةً من الشارع قبل أن تُتلى حتّى.

طبعاً، الحكومة الحاليّة تتحمّل الآن تبعات أخطاء وخطايا الحكومات المتعاقبة منذ الـ 1990، لكنّ الناس لا تشعر بأنّها تظلم الحكومة، ذلك لأنّ معظم الأساسيّين في السلطة كانوا فيها منذ ذلك الوقت.

أعتقد أن الطقم السياسي الحالي قد انتهى. المسألة مسألة وقت فقط. الزعماء “ما كانوا عَ قد المرحلة”. الصَلف السياسي أوجَعَ الناس. الفساد أنهكَ العباد. الـ Taboo، سقط. عندما يتظاهر في صور والنبطيّة هذا العدد من الناس، وعندما تنزل الناس بهذه الكثافة إلى الشارع في المناطق المسيحيّة، هذا يعني أنّ التابو قد سقط أو هو فقد وهجَه. الدولة ببساطة لم تلبِّ طموحات الناس لا بل فشلت فشلاً ذريعاً. التهت بقلبِ الطاولةِ على أطرافها.

الخطورة الوحيدة والكبيرة في ما يجري أنّ لا خارطةَ طريقٍ بيد أحد، وأنّ قسماً كبيراً من الزعماء، ليسوا فاسدين وحسب، بل عاجزين أيضاً، لذا فإنّ الأسبوع الطالع قاسٍ. المطلوب عقول باردة في الأزمة Cool Head in Crisis. والمطلوب تنازلات لم تكن حتى مساء الخميس واردة في الحسبان.

سمير قسطنطين