صباح 24 تشرين الأول 2019

الناس في الشارع. تعيش كلّ الوعي لمطالبها. الانتفاضة أخذَت بُعدَها. في كلّ يوم تقضم جزءاً آخر من “هيبة” السياسيّين، ولا أدري إنْ كانت هيبة أم تسلّطاً. الحراك اختزلَ من هُم في السلطة.

في المقابل، السلطة قابعةٌ في بيوت ناسها. تسأل نفسها كلّ لحظة إذا ما كان لهذا “الكابوس” (بنظرها طبعاً) من نهاية. لكنّها باتَتْ مدركةً أنّها خسرَت المعركة وإنْ كانت ما زالت تكابر وتشمخ. هي غير متأكّدة إذا ما كان سقوطها سيكون بالنقاط أم بالضربة القاضية. السلطة تتصلّف وتحاول أن تشتري وقتاً. في الوقتِ الضائع، هي تطلّ على الناس بعنفها، وفي مرّاتٍ بحقدها. ساعةً تأخذ شكل الشرطة البلديّة في النبطيّة، وساعةً أُخرى شكلَ جهازٍ أمني في مكانٍ آخر، وساعة ثالثة شكل درّاجاتٍ ناريّة. لكنّ السلطة في قرارةِ نفسها تُدرك أنّها لن تخرج من هذه الأزمة “صاغ سليم”. هناك ثمن ستدفعه، لعلّه ليس على قدر طموحات الناس ودفعةً واحدةً، لكنّها ستدفع ثمناً باهظاً لكلّ خطاياها، ربّما بالتقسيط لكنّه سيكون من نوع “التقسيط غير المريح”. أهلُ السلطة يعرفون ذلك. هُم الآن يساومون على الكلفة وشروط الدفع، على كيفيّة تسديد ثمن الأخطاء الكبيرة.

موقف الجيش رائع. بعض الإذاعات تهاجم القيادة بشكلٍ “ذكي” كما هي تظن. لكن ليس للذكاء في هذا الهجوم مكانٌ لا من قريب ولا من بعيد. الجيش صلب. ليست الناس هي التي احتضنَت الجيش بل الجيش هو الذي احتضنها. لذا لا يُفيد كثيراً تسيير درّاجاتٍ ناريّة إلى ساحات الاعتصام. الغريب أنّ السلطة في فسادِها كانت أكثر جرأةً بكثير من جرأتِها في المواجهة في الشارع. “ما إلُن قلب يكونوا عنيفين”. بكلّ الأحوال، الجيش بالمرصاد. “بَسْ إذا بيحلّوا عن ضهرو شوي بيكون أحسن”. أكثر من ذلك، أعتقد أنّ مصلحة السياسيّين الاستراتيجيّة، هذا طبعاً إذا كانوا استراتيجيّن، هي في أن يحموا الجيش. هُم يدركون ذلك. والذين يعتقدون أنّ هذا الحزبَ أو ذاك قد يخطفون التحرُّك، والذين يحاولون أن يعمّموا هذه الصورة، أخشى أن يكون القطار قد فاتهم. حتى الأحزاب التي هي خارج السلطة “ما إلها لقمة بالحراك”. الشعب هو سيّد الحراك ولو كان هناك حضورٌ حزبي “مِشْ فاقع” في مكانٍ أو اثنين. في النهاية، هؤلاء من الناس أيضاً.

خارطة الطريق بدأت تظهر. طبعاً الطموح هو استقالة فوريّة للحكومة وتشكيل حكومة تكنوقراط والبدء ببناء دولة تحاسب الفاسدين أولاً. لكنّي أعتقد أنّ هذا التغيير آتٍ إنّما على مراحل. البداية قد تكون بتغييرٍ حكومي واضح المعالم. ما بين أربعة وثمانية وزراء قد يتغيّرون. رموزٌ استفزازيّة أو مرتبطة بما حدث قد تتغيّر. ستذهب إلى البيوت. هل ستتغيّر كلّ الرموز المثيرة للجدل التي نسمّيها بالإنكليزيّةControversial ؟ ليس ذلك واضحاً حتّى الآن. حزب الله لن يرضى تحت أيّ ظرفٍ من الظروف، أقلّه في الوقت الحاضر، خسارة الثلث المعطّل. السبب غير مرتبطٍ لا بالمحاصصات ولا بالفساد ولا بنوعيّة الوزارات التي يريدها. هذا موضوعٌ إقليمي دولي لن يتخلّى عنه الآن. في الواقع، الحزب هو الذي يمنع سقوط الحكومة، طبعاً ليس حبّاً بها أو برئيسها. فالحزب أسقطه في الـ 2011. الموضوع يرتبط بالحزب وليس بالرئيس الحريري. ما هي الخطوة الثانية في خارطة الطريق؟

بعد التعديل الحكومي، يأتي دور الإصلاحات. ولا إصلاحات من دون محاسبةِ رموزٍ سياسيّة. خطوة الإدّعاء على الرئيس نجيب ميقاتي، لا علاقة لها بالإصلاحات المرجوّة. طبعاً، إذا صحّ ما فعله الرئيس ميقاتي، فهذا مستغرب. لكنّ استدعاءه الآن هو من ضمن الكيديّة السياسيّة. وإلّا فماذا يعني أن تستدعي الميقاتي وأنتَ قبل أيّامٍ قليلة حَمَيْتَ وزيراً أو وزيرين من المساءلة أمام القضاء. في طليعة العمل الإصلاحي إذاً هو تحرّك، ولا أقول تحريك لأنّ السياسيّين لن يحرّكوها، تحرُّك النيابات العامة كلّها وخصوصاً النياباتِ العامة الماليّة. استدعاء مدراء عامّين في الدولة، ورؤساء مجالس، ورؤساء صناديق، ومسؤولي جمارك حاليّين وسابقين، ورؤساء هيئات مثل أوجيرو وغيرها، إلى التحقيق في مرحلةٍ أولى تبدو محتومة. والتحقيق قد يذهب صعوداً إلى وزراء ونوّاب.

الخطوة الثالثة في خارطة الطريق قد تكون مواكبة الحراك الحثيثة والقريبة لتحرّكات الحكومة ومجلس النوّاب. الضغط يجب أن يستمر وأن يتصاعد مع كلّ جلسةٍ لمجلس الوزراء وكلّ جلسةِ لجانٍ نيابيّة أو جلسةٍ عامّة. يجب أن يتحوّل الحراك إلى حكومة ظلٍّ. الحراك يجب أن يتحوّل إلى رديفٍ في الشارع إلى أن يُصبح رديفاً في مجلسَيْ النواب والحكومة. وعلى الحراك أن يستعد لمواكبةٍ قد تستمرّ في أحسن الأحوال سنة كاملة. وعليه بالتالي أن يجد معادلةً تجمع بين عودة الناس إلى أشغالها وبين المواكبة اللصيقة لما تقوم به الحكومة.

على الحراك أن ينضج الآن، وأن يتحوّل في فترةٍ قصيرة من مقاتلٍ A Fighter إلى رجل دولة A Statesman. ليس مهمّاً الآن أن يكون للثورة قيادةٌ موحّدة، المهم هو الحفاظ على المكاسب. الحراك شخّصَ المرض. الآن دور التطبيب. كلّنا متفقون على الدواء لكنّنا يجب أن نتوافق أيضاً على حجم الجرعات. إذا كان ولدكَ مريضاً لا سمح الله ووصف له الطبيب مضاداتٍ حيويّة Antibiotics ، أنتَ لا تُعطيه كلّ زجاجة الدواء في يومٍ واحد وإلّا خسرتَه لا سمح الله.

إذاً خارطة الطريق في مرحلتها العريضة الأولى قد تمرّ بثلاث خطواتٍ هي: تعديلٍ حكومي في الشكل والمضمون، تحريك النيابات العامة وخصوصاً الماليّة منها، ومواكبة تحقيق المكاسب على شكل حكومة ظل.

قد لا يرضى الثوار تماماً بما أقول. هُم يريدون سقوط كلّ أركان النظام دُفعةً واحدة. وأنا أقول لهم أنّ الطبقة السياسيّة الحاليّة انتهت. انتخابات الـ 2022، ولا بأس بانتخاباتٍ نيابيّة مبكرة، ستؤكّد للجميع نهاية هذه الطبقة من السياسيّين والآتي قريب. وكلامي قد لا يعجب أيضاً من هُم في السلطة الآن. لكنّي أراهم يرضون بالذهاب الآن إلى الوسط لملاقاة الثورة. طبعاً السلطة تريد أن تلتقي الثوار في الوسط ومن ثمّ تُريد أن تميّع. لكن هنا يكمن دور الحراك في المواكبة لكلّ ما تقوم به السلطة. فإذا استطاع الحراك إلزام الدولة بالورقة الإصلاحيّة مع تطويرها طبعاً، واستطعنا إقناع القضاء بالتحرّك فوراً وعلى الجبهات كافّة ومن دون كيديّة، نكون قد بدأنا بتأسيس دولةٍ لأولادنا.

أعتقد أنّ الجوّ إيجابيٌّ وأنّ هناك نوراً في النفق بدأ يبين. دعوا الشارع ينفعل قدر ما شاء. الناس “محقونة”. التوقّف عند وجودٍ حزبي من هنا بين المتظاهرين، أو راقصةٍ من هناك، أو أركيلة في وسط العاصمة، ليس مهمّاً الآن، وإنْ كان على الحراك أن ينتبه إلى هكذا تصرّفات. ودعوا السلطة تهرب من نفسها ومن صيحات الناس قدر ما شاءت. فالسلطة خائفة وهي تدرك أنّ شيئاً ما وكبيراً قد تغيّر. لكن دعوا فسحةً كبيرة للعقل أيضاً. العقل يجلب حلولاً غير كارثيّة على لبنان. العقل يحافظ على المكاسب. والعقل يوصل الحراك إلى مبتغاه من دون خسائر مجّانيّة. إذا حصل ذلك، فإنّي أعتقد ساعتها أنّ النصرَ ساعةَ صبرٍ.

سمير قسطنطين