صباح 26 تشرين الأول 2019

اليوم العاشر للحراك. توقّفٌ أمام كلمة السيِّد التي لعلّها كانت أمس الحدث الأبرز وكذلك الحديث. طبعاً الثائرون في الشارع لم يحبّوا الكلمة لا من قريب ولا من بعيد. وبطبيعة الحال، أهل السلطة “أخدوا روح”، واستكانوا. لكنّي أعتقد أنّ لا هؤلاء قرأوا كلّ ما كان يجب أن يقرأوا في كلام السيّد، ولا أولئك، أي أهل السلطة، يجب أن يكونوا مرتاحين إلى هذا الحد.

أولا في ما للكلام: في كلامه، لم يغلق سماحة السيّد الباب على التعديل الحكومي. هو أغلقه على سقوط العهد واستقالة الحكومة. بذلك، قال “لا للفراغ”. لكنّ باب التعديل بقي مفتوحاً وإنْ لم يتلفّظ بذلك.

كذلك لم يتجاهل الخطاب حقيقة وجود الفساد، ولم يدافع عن الفاسدين، ولم يحاول أن يحمي من هُم في السلطة بأيِّ موقف، هذا في وقتٍ ما زال يسعى فيه بعض الشارع بتحريكٍ من قياداتٍ سياسيّة على القول ما معناه: “صحيح في فساد، بس هودي مِشْ نحنا … هنّي”. ذكّروني بطفولتي “مِشْ أنا ماما، هوّي”. في كلامه لم يقل كلاماً من مثل: “الأخ الرئيس نبيه برّي شخصيّة وطنيّة إلخ …”، ولم يُشرْ إطلاقاً إلى “دور الرئيس الحريري كمنقذٍ”، وهو لم يدافع عن الوزير جبران باسيل كما فعل في مرّاتٍ سابقة. لم يقُلْ كلاماً من هذا النوع إطلاقاً.

أيضاً في كلامه، اعترف السيِّد بحقّ الناس بإقفال الطرقات. طبعاً جمهوره هو فَعَلَها مرّاتٍ عدّة. هو لم يذهب إلى حدِّ إدانة الاعتصامات في الشارع. لعلّه طلب إبقاء ممرّاتٍ للناس. كثيرون من المعتصمين ومن مؤيّديهم يريدون ذلك أيضاً، أليسَ كذلك؟

كذلك في كلام السيِّد إعترافٌ بحقّ الحراك بمتابعة كلّ خطوةٍ من خطوات مجلسَيْ النواب والوزراء. كأنّه بهذا الكلام يؤيّد حضور الحراك كحكومة ظلٍّ.

كذلك اعترف بحقّ الناس بانتخاباتٍ مبكرة وإنْ كان قد صعّب آلية تنفيذها. كان هو أيضاً واضحاً في خطابه لجهة تأييد الإصلاح المالي لا بل هو قال أنّ المزيد يُنتظَر من الحكومة في هذا المجال.

ومن حسنات الخطاب كان اعترافه بحقِّ الحراك كمحاور، طبعاً مع ربطه هذا الحوار مع شخص رئيس الجمهوريّة. هو لم يستخف بهذا الحق على قاعدة أنّ “شارعي أكبر من شارعك”، وأنّه بالتالي لا يحق للشارع الحوار.

في كلامه أيضاً، إعترافٌ بوجع الناس، كلّ الناس. باختصار، وبعقلٍ بارد، كان في كلامه إلى جانب تحقيق المطالب لكنّه رفض هزّ النظام. وهذا الرفض برأيي لا علاقة له بالفساد. هذا له علاقة بهواجسه الإقليميّة والدوليّة. أسمح لنفسي بالقول أنّه خائفٌ من أن يذهب الموضوع إلى سحب الأرضيّة من تحتِ رجليه. خوفه كيانيٌّ وقلقُه استراتيجي، ولا علاقة له بالحراك. دائماً هو يتوجّس من إمكانيّة تسليمه للغرب، طبعاً أتحدّث عن تسليم قضيّته. كأنّه كان يقول يوم أمس “ما فينا ننكشف هالقد”.

لكن في كلمته، ذهبَ سماحة السيِّد إلى أماكن لا لزوم لها برأيي. فعدم تصديقه أنّ الحراكَ عابرٌ للطوائف، واعتباره بطريقةٍ ما أنّ طائفيّة الناس تأتي أولاً، لم تكن نقطة موفّقةً. هذا الأمر كان يجب أن يشكّل سبباً للاحتفال بالنسبة إليه وليس سبباً للتشكيك.

كذلك فإنّ إعطاءه الأحزاب في بعض المناطق حجماً أكبر من حجمها الحقيقي في هذا الحراك غامزاً من قناة القوّات اللبنانيّة، لم يكن ضرورياً. الحراك ليس حزبيّاً وإن كانت الأحزاب موجودة، لكنّها غير قادرة على كشف وجهها، لأنّ الناس سترفضها فوراً. أنّ الناس أكبر من الأحزاب في هذا الحراك. أنا أعتقد أن معظم الذين في الشارع في المناطق المسيحيّة غير حزبيّين ولن يكونوا. وإذا سلّمتُ جدلاً أنّ الأحزاب دخلت على الخط، فأين هو حزب القوّات اللبنانيّة في طرابلس مثلاً؟ وأين الحزبيّين في صور وصيدا والنبطيّة وبعلبك؟ هذا التوجّس كان يمكن أن يمرّ الخطاب من دونه برأيي.

نقطة أُخرى لم تكُن ضروريّة هي النقطة المتعلّقة بالتمويل وتحديداً تمويل السفارات للحراك. من قال أنّ السفارات هي الآن مع سقوط النظام؟ أعطوني دليلاً واحداً على أنّ الدول الغربيّة وتحديداً الولايات المتّحدة هي مع إسقاط النظام. الدول الغربيّة تحديداً هي مع الاستقرار. هذا لا يعني أنّها ضد حرّية التعبير، لكنّي لا أعتقد أنّها ذهبَت إلى حدّ المطالبة أو السعي إلى إسقاط النظام. بالأمس كانوا يدعمون وبكلّ قوة حكومة الرئيس الحريري عبر “سيدر”، فلا أعتقد أنّ هذا الشكَّ في مكانه. وهنا أود أن أقول شيئاً عن التمويل. أنا أحد الأشخاص الذين ناضلوا في بعبدا في حرب التحرير في العام 1989. لم تبقَ “دكّانة” آنذاك لم تفتح لنا أبوابها للأكل والشرب. لم يبقَ محلّ حلويات لم يمدّنا بالكنافة وقتئذٍ. ولم تبقَ قجّة لم يأتي الناس ولم يفتحوها في القصر تبرّعاً للجيش وقائده آنذاك. هذا ما يفعله بعض المتموّلين أو الميسورين الآن، ولا أعتقد أنّي ساذجٌ إلى درجةٍ لا أنتبه إلى هذا الموضوع. لذا فالتشكيك في التمويل، لم يكُن ضروريّاً. تكبير حجم المخاطر كان واضحاً في الخطاب. لم تكن هناك حاجة إليه.

الأمر الأخير، الذي كان من الأفضل الإشارة إليه وقد أغفله الخطاب هو كيفيّة محاسبة الوزراء لأنفسهم. الحكومة تضم الأحزاب الأقوى في البلاد. وناس هذه الأحزاب هي التي تعيث في الأرض فساداً. فكيف يحاسب هؤلاء أنفسهم؟ كيف يسلّمون رؤوسهم إلى القضاء؟ هذه كانت نقطة ناقصة لا شك.

هذا ما للخطاب وما عليه. لكن “ما هو الخطأ الاستراتيجي” الذي سَبَقه كما قُلتُ سابقاً؟ حزب الله موجودٌ بالطبع وله جمهورٌ كثيف. في الموضوع الداخلي، يبقى هو دائماً حذراً من الوقوع في أخطاءٍ استراتيجيّة. هو وقعَ مراراً في أخطاءٍ تكتيّة، لكنّه غالباً ما يتجنّب الأخطاء الاستراتيجيّة. هذه المرّة وقع في واحدةٍ منها، وذلك طبعاً قبل الخطاب بأشهر لا بل بحوالى السنة. حزب الله بدأ قبل أكثر من سنة معركةً طاحنةً وعلنيّة ضد الفساد. كلّنا سألنا في حينه: “ماذا سيفعل بأصدقائه حين يأتي وقت محاسبتهم”؟ النائب حسن فضل الله كان قائد الحملة. كلّنا نذكر قوله عشرات المرّات “إنّنا نملك ملفّات لما تُفتح، ستُدحرِجُ رؤوساً كبيرة”. كلّنا سألنا “ماذا سيفعل بالمعابر والمرافق التي يستفيد هو من التهريب عبرها”؟ أعتقد أنّ الحزب كان جدّياً، لا بل جدّياً جدّاً آنذاك. في ذلك الوقت أتَت العقوبات على إيران وتشدّدت إلى حدٍّ خانق. خفّت الاندفاعة كثيراً. الخطأ الاستراتيجي الذي فعله الحزب هو أنّه تركَ مساحةً للناس العاديّين أن يسبقوه إلى الساحات رافعين علم مكافحة الفساد. هذه كانت ستكون معركته هو. كانت ستكون معركته في الاقتصاد بعد معركتَيْه في الأمن والسياسة. لكنّ الناسَ سبقوه. أخذوا الراية من يده. ووقع هو في خطأٍ استراتيجي.

في الختام، أيضاً في هذه المرّة، قد لا يُرضي كلامي كلّ تطلّعات الثوّار الأنقياء، وقد لا يعجب توصيفي للخطاب بعضاً من جمهور المقاومة، لكنّي أعتقد أنّ المساحة مُتاحةٌ الآن للحوار، وأظنّ أنّ فرصةَ الثوّار في الحصول على المزيد من المكاسب من هذه الطبقة السياسيّة التي أصبحت بشبه المنتهية، هي فرصة كبيرة. دائماً أحاول وسأبقى أحاول أن أقول أنّ العقل خلف الأبواب المغلقة هو أكثر أهمّية من صرخات الشارع المحقّة. الهتاف لا يصنع حلاً، لكنّه يحرّكه. يحثّ عليه ويدفع باتجاهه. السؤال هو ما إذا كان الثوّار جاهزين للإندفاع باتجاه إيجاد الحلول بقدر اندفاعهم باتجاه التعبير عن سخطهم في الشارع. الموضوع هو موضوع إيجاد معادلةٍ Formula تضبط وتيرة سرعة انهيار الطبقة السياسيّة إلى جانب حتميّة عدم الوقوع في الفراغ لأنّه سيكون مدمّراً لكلّ ما أُنجز حتّى اليوم.العقل وحده كفيلٌ بإيجاد هذه المعادلة.

سمير قسطنطين