صباح 28 تشرين الأول 2019
عندما يتحرّك الشارع بالشكل والحجم الذي حدث في لبنان منذ إثني عشر يوماً، يأخذ الحدثُ أهل السلطة على حين غُرّة. في البداية، هُم يعيشون شعوراً يشبه الصدمة The Shock. يُذهَلون كيف أن الشارع زَحَل في أقلّ من أربعٍ وعشرين ساعة من تحت أقدامِهم وذهب إلى مكانٍ آخر. حدث ذلك مرّاتٍ عدّة في العقود الأخيرة أذكر منها إثنتين. المرّة الأولى حين رحلَ الشارع المسيحي ودُفعةً واحدة في العام 1989 من ناحية الأحزاب التي كان لها الكلمة الأقوى في الشارع آنذاك، وتحديداً القوات اللبنانيّة والكتائب، رحلَ الشارع باتّجاه رئيس الحكومة العسكريّة آنذاك العماد ميشال عون. عاش القواتيّون والكتائب الصدمة. كذلك حصل ذلك في بيروت مع الرئيس الراحل رفيق الحريري الذي اكتسحَت لائحتُه ثمانية عشر مقعداً في انتخابات العام 2000 مبقيةً أحدَ المقعدَيْن الشيعيين لحزب الله. حصَلَت الصدمة آنذاك، وكان في طليعة المصدومين النظام السوري. هذا ما يحصل الآن. أعتقد أنّ الشعور الذي ساد أهل السلطة في لبنان في الأيّام الأولى للانتفاضة كان شعور “الصدمة”. لم يُصدّق الرئيس نبيه برّي وحزب الله أنّ نصف المتظاهرين في كل لبنان هُم من الشيعة. أعتقد أنّهم ذُهلوا من تكسير المتظاهرين للوحاتٍ تدلّ على أماكن مكاتب النواب في النبطيّة مثلاً. لم يُصدّق الوزير جبران باسيل أنّ الشارع المسيحي محقونٌ إلى هذه الدرجة، وأنّ قسماً كبيراً جداً من المتظاهرين لم يكونوا يوماً ضدّ العماد ميشال عون. ولم يُصدّق زعماء السنّة في لبنان، وفي طليعتهم رئيس الحكومة، أنّ طرابلس ستكون قبلة الأنظار في هذه الانتفاضة، وأنّ خطّ الدولة المدنيّة قويٌّ جداً في الشارع السنّي. كانوا فعلاً مصدومين.
بعد شعور الصدمة يأتي شعور “النكران”، أو ما نسمّيه بالإنكليزية الـ Denial. شعور النكران هذا بدا بعد ثمانٍ وأربعين ساعة من بدء الحراك. الوزير باسيل قال: “المظاهرات ليست ضدّنا”. الوزير محمّد شقير قال “الأيدي الخفيّة تحرّك المظاهرات”. وفي معرض النكران عند تيّار المستقبل، قال شقير أنّ فكرة الضريبة على الواتساب هي فكرة الوزير غسان حاصباني”. لعلّ الكلامَ صحيحٌ لكنّ الفكرة هنا تصبّ في خانة النكران. الرئيس الحريري نفسه عاش النكران أيضاً قائلا أنّ شركاءه في الحكومة ماطلوا في الحل الذي طرحه منذ أشهر. هو أيضاً كأنّه يقول على الطريقة البيروتيّة “مو أَني”. في إطار هذا النكران، سارع وزراء القوّات اللبنانيّة إلى الاستقالة، وكأنّهم يقولون أيضاً: “مو أَني”. البعض قد يرى في الاستقالة تعاطفاً مع الشعب. أنا أراها نكراناً. سماحة السيّد حسن نصرالله عاش هذا النكران حين اعتبر أنّ المشكلة هي في النهج وليست في الأشخاص. لكن في الحقيقة، هو يعرف تماماً أنّ المشكلةَ هي في الأشخاص وفي النهج معاً. هذا أيضاً نكران. كأنّه كان يقول: “الناس على سلامِتُنْ، بس المشكلة في الأداء مش أكتر”. حركة أمل عاشت النكران أيضاً. النائب هاني قبيسي اعتبر ما حصل في الجنوب، على الأقل في جزءٍ منه، بأنّه ردّة فعل على عدم وقوف الرئيس نبيه برّي مع مرابين أُدخلوا إلى السجن. قال: “لا نقبل أن تحرق صورة الامام الصدر من قبل مرابين موضوعين في السجن تحرّكت عائلاتهم لأننا لم نقف الى جانبهم وبالتالي أرادوا الانتقام من بري”. في هكذا حال، أنتَ تنكر الصورة الكبيرة للتحرّك، وتربطها بصوَرٍ صغيرة، من مثل حرق صورة الإمام موسى الصدر (وأنا أيضاً لا أرى معنىً لها في هذا الحراك)، أو ربط صدقيّة الحراك براقصةٍ أتت إلى الداون تاون، أو ما شابه.
بعد النكران يأتي الشعور الثالث في هكذا أحداث، وهو شعور التعنُّت. التعنُّت هو تعصَّبٌ في رأيٍ أو موقف، والمكابرة عنادًا. عندما يفيقُ أهل السلطة من وقع الصدمة، وقد استفاقوا منها، يذهبون عادةً إلى النكران. لكنّ النكران حالةٌ دفاعيّة. لمّا “بياخدوا نَفَس”، وقد فعلوا ذلك بعد مرور إثني عشر يوماً على الحراك، يذهبون إلى التعنُّت. التعنُّت هو حالة هجوميّة في شكلها، لكنّها في عمق داخلها، هي حالة دفاعيّة على شكل هجوم. التعنّت فيه “مَسْمَرةٌ”، والمسمرة هي دفاعٌ مبطّن عمّا تملك أو عن مواقعك. هذا ما يحصل الآن. تعنُّت السلطة واضح ويُختصر بعبارة “لا تفاوض قبل فتح الطرقات”. ولا أُخفي أنّ المتظاهرين أيضاً متعنتون على قاعدة: “كلّن يعني كلّن”. لكنّ السلطة تتحمّل مسؤوليّةً أكبر بكثير، ذلك لأنّ مفتاح الربط والحلّ بيدها. أنا أفهم تعنّت المتظاهرين لكنّي لا أفهم تعنّت السلطة. أفهمه من ناحيةٍ واحدةٍ فقط تتلخّص بالتالي: “ماذا لو ذهبنا إلى بيوتنا وقرّر من يأتي بعدنا فتح الملفّات”؟ لا أفهم التعنّت إلّا من هذه الزاوية فقط. سألتُ نفسي مراراً خلال هذا الحراك: “لو كُنتُ رئيساً أو وزيراً، هل كُنتُ أُريد أن أبقى دقيقةً واحدةً في السلطة، والناس ضدّي إلى هذا الحد”؟ طبعاً لا. “شو هالبهدلة”!!!! الذي يساعد السلطة على التعنُّت هو في الحقيقة حزب الله. السلطة باتت واهية جداً. الذي يحمِلُها على ذراعيه ويرفعها إلى أعلى هو الحزب. في اللحظة التي يقبل فيها الحزب بتعديلٍ حكومي أو أكثر، ليس أحدٌ في السلطة قادراً على الصمود لحظةً إضافيّة واحدةً. السؤال هو: “كيف يمكن للمتظاهرين أن يفرضوا التغيير آخذين هواجس الحزب بعين الاعتبار”؟ أنا أعلم أنّ المتظاهرين لا يحبّون هذا الكلام، وأنا أفهمهم أيضاً. إنّما يقيني هو أنّنا عندما نريد أن نجد حلّاً، لا بُدّ من تنازلاتٍ من الطرفين، الأمر الذي نسمّيه في عالم حلّ النزاعات بالـ Concessions. الحزب بات جاهزاً لعدم تغطية الفاسدين، لكنّه غير جاهزٍ لكشف نفسه. هو أيضاً يعيش إرباكاً.
إلى الآن، تحدّثنا عن الأنواع الثلاثة من المشاعر: الصدمة، النكران، والتعنُّت. فماذا عن الرابع؟ الرابع يمكن أن يكون واحداً من أمرَيْن اثنين: فإمّا التنازلات المتبادلة وإمّا الكسر. أعتقد أنّ المتظاهرين تنازلوا بطريقةٍ ما. أعتقد أنّهم يقبلون بحكومة تكنوقراط برئاسة الحريري. هُم لا يقولون ذلك علانيةً، لكن هذا هو الجوّ العام. وفي هذا التنازل نوعٌ من الليونة. في البداية، هُم أرادوا رحيل الجميع. وأعتقد في المقابل أنّ الحزب أيضاً أصبح أكثر ليناً. كلام رئيس المجلس التنفيذي في حزب الله السيد هاشم صفي الدين يوم أمس ليس بالقليل. هو قال: “البلد أصبح في خضم تحدٍّ مهم وحسّاس حين انفجر الناس نتيجة الضغط الاجتماعي والاقتصادي والتراكم الجائر من قرارات للحكومة مؤدّاها إهمال الطبقات الفقيرة والمتوسطة في المجتمع … نحن لسنا في خصومة مع الحراك أبدا، بل نقدّر ونحترم أهدافهم وما يقومون به … ونحذّر المسؤولين أنه إذا لم يسارعوا إلى تنفيذ هذه الوعود التي التزموها، سيكون لنا موقف واضح وحاسم”. وبالمناسبة، فإنّ حزب الله هو الوحيد بين أحزاب السلطة الذي اعترف بأخطاء السلطة وبأحقّية الحراك، وإن كان يعبّر عن هواجسه منه باستمرار. ولا أُخفي أنّه عبّر عن هواجسه من الحراك في بعض الأحيان بطريقةٍ غير موفّقةٍ على الإطلاق. غيره في السلطة ما زال مصرّاً على أنّ في الحراك مؤامرةٌ!!!
السؤال الأخير هو: “ماذا لو لم تعمد السلطة إلى مزيدٍ من التنازلات”؟ عندئذٍ، قد يتّجه الأمر إلى الكسر. فإمّا كسر المتظاهرين، ولا أرى السلطة قادرةً عليه من دون دم، ولا أرى هنا للدم مكاناً. هذا كان ممكناً في الساعات الـ 72 الأولى للحراك، وجرّبت السلطة ذلك من خلال المندسّين، لكنّ الأمر بات صعباً الآن. وإمّا الخيار الثاني، وهو خيارُ كسر السلطة، وهذا ليس هيّناً أيضاً. السلطة خائفة من الذهاب إلى البيت وفتح الملفّات. لكنّ التعنّت قد يوصلها إلى هناك.
وأنا أكتبُ هذه الكلمات تذكّرت ما ورد في الكتاب المقدّس عن الكبرياء في التعاطي مع الناس. قال: “قَبلَ الخَيـبةِ … الكِبرياءُ، وقبلَ السُّقوطِ … تَشامخُ الرُّوحِ”. هذا ما يخيفُني. يخيفني أن يكون هذا التشامخ مقدّمةً للسقوط. عندئذٍ لات ساعةَ مندمِ.
هل نذهب من الصدمة إلى النكران إلى التعنّت، ومنه إلى التنازلات؟ أم نذهب من محطّة التعنّت إلى الكسر؟ أرجو أن يكون درب السلطة هو الدرب الأول.
سمير قسطنطين
أحدث التعليقات