صباح 3 تشرين الثاني 2019

اليوم التاسع عشر. الشارع مُصرٌّ على التغيير الكامل على قاعدة “كِلُّن يعني كِلُّن”. السلطة خَطَت خطوةً واحدة لكن كبيرة نحو التغيير، وذلك عبر تقديم رئيس الحكومة استقالة حكومته.

على مستوى الكلام السياسي، أعتقد أن ما قاله رئيس الجمهوريّة كان رأس الكلام. الرئيس اعترف بوجود الفساد Big Time. هو اعترف بالـ “الفساد الذي نخرَ الدولة ومؤسساتها لعقود وعقود”. وكان واضحاً وضوح الشمس أنّه “يجب ان يتم اختيار الوزراء وفق كفاءاتهم وخبراتهم وليس وفق الولاءات السياسية”، وهذا رائع. وتعهّد الرئيس أن يكون “الاعتبار الوحيد المطلوب هذه المرّة هو أن تلبّي الحكومة طموحات اللبنانيين وتنال ثقتهم أوّلاً ثم ثقة ممثّليهم في البرلمان”. هذه كلمات الرئيس.

خطاب الرئيس عون كان خطاباً ملتزِماً. لذا أعتقد أنّ تظاهرة بعبدا اليوم كانت غير ضروريّة بعد الكلام الكبير لرئيس الجمهوريّة. ما ستقوله تظاهرة بعبدا لن يكون بحجم ما قاله الرئيس. في كلمته، بدا الرئيس عون أنّه المسؤولُ عن كلّ البلد. تظاهرة اليوم ستُظهره بأنّه مسؤولٌ عن قسمٍ منه فقط. ناهيك عن بروز أعلامٍ حزبيّة ليلة أمس. طيلة أيّام الحراك، لم يظهر علمٌ في الشارع سوى العلم اللبناني. لماذا الأعلام الحزبيّة إذاً؟ ليت المتظاهرين يعودون إلى أرشيف الـ 1989. في ساحات “قصر الشعب” لم يرفع الناس سوى العلم اللبناني. لم تكن هناك أعلامٌ أُخرى. رأوا العماد ميشال عون آنذاك قائداً على مستوى الوطن وليس على مستوى المتظاهرين فقط. صحيحٌ أن الرئيس جاء من الحزب لكنّه أصبح لكلّ لبنان. أليسَ كذلك؟ لماذا نحجّمُه؟ المبرّر الوحيد لتظاهرة بعبدا اليوم هو توجّهها إلى ساحة الشهداء وليس إلى أيّ وجهةٍ أخرى. تذهب إلى هناك لتقول للمعتصمين: “ونحنُ أيضاً ضد الفساد والفاسدين”. شارع الرئيس سعد الحريري فعل ذلك أيضاً في اليوميْن التاليَيْن لاستقالته. لكنّ طرابلس ردّت بوضوح قائلة: “لا دخل لنا بسعد الحريري … هؤلاء مندسّون”. آخر شيء يحتاج إليه السياسيّون الآن هو الشارع. الغريب هو أنّ الناس تريد الدولة، والسلطة تريد الشارع. خُذ مثلاً من ظهر أمس في منطقة عين التينة. كُنتُ أُفضّل مئة مرّة أكثر أن أرى في محيط عين التينة الجيش اللبناني مسيِّجاً المنطقة ليحمي دولة الرئيس نبيه برّي من أيّ أذىً لا سمح الله. لكنّي رأيتُ في الشارع وجوهاً أقل ما يُقال فيها أنّها لا تُشبه الدولة. هي تشبه السلطة لا الدولة.

على مستوى الكلام السياسي إذاً، أعتقد أن ما تقوله السلطة حول الفساد جيّد. المشكلة هي في التنفيذ، وتحديداً في القدرة على التنفيذ، وليس في الرغبة فيه. الرغبة قد تكون موجودة إلى حدٍّ ما لأنّ السلطة تدرك أنّها في مأزق. لكن السؤال هو: “هل القدرة موجودة أيضاً”؟
الحراك الشعبي هو العامل الوحيد الذي حقّق مكاسب حتّى الآن. السلطة، وإنْ كابرَتْ، هي في مرحلة “تحديد الخسائر أو الضرر”، أي ما نسمّيه بالإنكليزيّة بالـ Damage Control. النظام السياسي الذي كان قائماً على الحماية المتبادَلة للفاسدين سقط، وإلى غير رجعة. لا ينفع الآن ما قاله النائبان الصديقان والعزيزان سيمون أبي رميا وآلان عون أمس. النائب أبي رميا قال: “المشهد في 17 تشرين الاول حرّر الرئيس عون من كل التفاهمات التي كبّلتنا”. النائب عون قال كلاماً مشابهاً أيضاً. لا أعتقد أن أحداً في الدنيا كان قادراً على تكبيل التيار الوطني الحر في موضوع مكافحة الفساد والفاسدين. من فعَلَ 7 آب لا يكبّله أحد. لو حملَ التيّار فعلاً راية مكافحة الفساد لكان رأى كلّ الناس، من “ساحة النور” في طرابلس إلى “ساحة العَلَم” في صور إلى جانبه، ولكانت كلّ الدول الأجنبية قدّمت عبر سفاراتها، كلّ الدعم له، ووضَعت كلّ خبراتها المتراكمة في تصرّفه. كان التيار ساعتئذٍ تيّاراً عابراً للطوائف والمذاهب فعلاً لا قولاً. لكنّ التيّار، وآسف القول، لم يحمل هذه الراية في قاعات مجلس الوزراء بالشكل الكافي.

السلطة تدرك الآن أنّ ما يحميها هو قدرتها على العنف وليس تحلّق الناس حولها. لكنّها تُدرك أيضاً أنّ لعبة الدم ليست لصالحها. ليس ذلك فحسب، بل أعتقد أنّ حماية حزب الله للسلطة كلّفته كثيراً من رصيدِه المعنوي. قد تحبّ النائب جميل السيّد وقد لا تحبّه، لكنّه الوحيد الذي وصّف هذا الأمر بدقّة حين قال: “من مآسي القدر على الأمين العام لـ “حزب الله” السيّد حسن نصرالله، الرمز الأكثر نقاوة، أن يبدو وكأنه يحمي الفاسدين لمنع الدولة من السقوط بسبب الفاسدين أنفسهم، كالطبيب الذي يداوي السُمّ بالسُمّ! وهو بهذا حمّل نفسه ما لا يحتمل من رصيد دماء الشهداء لإنقاذ الدولة، وعلى الفاسدين أن يعلموا أن هذا الدم لن يُستعمل مرتين”.

باختصار، الحراك إذاً هو الرابح الأوحد وإنْ كان حتّى الساعة لم “يفيّش” ربحَه بعد. هذا الأمر آتٍ في الحكومة الجديدة. السلطة في مأزَقين. المأزق الأول يتمثّل بعدم قدرتها على الهروب من صيحات المنتفضين. لا يمكنها إرهابَهم، ولا تجاهلَهم، ولا تدجينَهم. بكلامٍ أوضح، السلطة لا يمكنها الهروب. المأزق الثاني الذي وضعت أو وجدت السلطة نفسها فيه هو استحالة التغيير. لماذا أقول ذلك؟ أقوله لأنّ المطلوب من السلطة، إنْ هي فعلاً أرادت التغيير بشكلٍ جدّي، أن تغيّر نهجاً بكامله، وأن تتخلّص من أسلوب حياةٍ عنوانه السرقة واللامبالاة والـ Mediocrity، وأن تتبنّى طريقة تفكيرٍ مختلفة كليّاً عمّا فَعَلَت في السابق، وعليها أن تفعل كلّ ذلك بإسبوعين فقط. هذا مستحيل.

على مستوى الخطاب السياسي، خفّت المكابرة، وإنْ لم تنتفِ بعد. لكن على مستوى نقاشات اللجان والوسطاء والاجتماعات، ما زال التعنُّت موجوداً، وإنْ من باب السعي إلى حفظ ماء الوجه. في النقاش، ما زالت السلطة تفكّر كيف تستمر. أمّا في خطابها، فالسلطة تتحدّث عن مكافحة الفساد. الفرق كبير. لذا ترى السلطة، وقد تحوّلت من تهديد الحراك وتعنيفِه واتّهامه بالعمالة للسفارات، إلى مرحلة استيعابه، وهذا أيضاً لن ينجح.

ما العمل؟ بين استحالتين، استحالة الهروب واستحالة التغيير، أعتقد أنّ الخيار الوحيد المُتاح للسلطة الآن هو تشكيل حكومة تكنوسياسيّة، رئيسها وجهٌ جديد، وأعضاؤها السياسيّون “مش فاقعين”، وأعضاؤها التكنوقراط موضع ثقة. هذه الحكومة تأخذ الثقة في الشارع وفي مجلس النوّاب، وتمضي بسرعة البرق إلى محاربة الفساد. السلطة، إذا أرادت البقاء، ولو حتّى الانتخابات النيابيّة المقبلة، عليها أن تضحّي ببعض الوجوه، وأن تسلِّم بمحاكمتهم محاكمة عادلة، وأن تمنع الصفقات، ومن ثمّ تنطلق إلى بناء دولة المواطن. هذه هي الفرصة الوحيدة لبعض السلطة بالاستمرار بين هاتين الاستحالتين. الدم ليس عنواناً سهلاً على أحد.

سمير قسطنطين