صباح 6 تشرين الثاني 2019
الناس الذين أيّدوا حراك الشارع سألوا أنفسَهم في اليومين الأخيرين: “هل انتهت الانتفاضة”؟ ويضيفون: “إذا كان الرئيس سعد الحريري عائداً إلى رئاسة الحكومة، وإذا كان الوزير جبران باسيل يفاوضه، فماذا تغيّر إذا؟ ولماذا كان الحراك”؟ جاءت هذه التساؤلات بعد أن فتح الجيش الطرقات العامّة، وأعتقد وكما كتبتُ الأسبوع الماضي أنّه كان لا بُدّ من فتح الطرقات. هذه الطريقة “خَدَمِتْ عسكريّتها” في الأيام العشرة الأولى من الحراك. ما حصل أمس أمام شركة “تاتش” وأمام “الزيتونة باي” هو أكثر فاعليّة الآن.
لكن بغضّ النظر عن كلّ هذا، فإنّ النقاش حسب الظاهر هو بين فريقين: فريق العهد، إذا جاز التعبير، وفريق رئيس الحكومة. ولعلّ الرئيس نبيه برّي يرافق هذا النقاش “من بْعيدْ لَبْعيد”. لكنّي أعتقد أنّ هذا النقاش فيه الآن الكثير من العتب المتبادل وقراءة الماضي وشيئاً من الفولكلور، وهو لا يحتوي إلّا على القليل ممّا سيأتي في الأيّام المقبلة. أقول ذلك لأنّ النقاش الحقيقي، هو الذي لا يجري بالمباشر، ولا يجري بالعلن ولا بالسر حتّى، وهو النقاش “الهوائي” بين الطرفَيْن القويّيَن على الساحة الآن، حتى لا أقول الوحيدَيْن: المنتفِضون وحزب الله.
الحزب في هذه المرحلة يمثّل السلطة ويحميها، وهو مدركٌ أنّ حمايتَها تخسّره من رصيده في محيطه أي في البيئة الحاضنة للمقاومة، لكن لا خيار له سوى فعل ذلك. السبب في ذلك يعود إلى أنّ أيّ سقوطٍ لأيّ طرفٍ في السلطة الآن قد يكون له وقع الـ Domino Effect. لذا وبنظر الحزب يجب الآن حماية كلّ السلطة، الفاسدين منهم وشبه الفاسدين، وأولئك الذين هُم أقلّ فساداً. لولا حماية الحزب لأهل السلطة لكنّا رأينا معظمهم وقد أصبحوا خارج البلاد. عندما استقال الرئيس سعد الحريري، عمّ الاستياء كلّ أهل السلطة، طبعاً ليس حُبّاً به، لكن رغبةً من السلطة في الحفاظ على نفسها واحدةً موحّدة. في هذه المرحلة، حمى الحزب السلطة، لكنّه في المرحلة القادمة لن يستطيع أن يحمي فاسديها، ولن يقبل فعل ذلك. طبعاً، الحراك يستغرب هكذا كلام، وأنا أفهمه، ذلك لأنّه بالنسبة إليه “كلّن يعني كلّن”. الحراك قد لا يُصدّق أنّ حزب الله في هذه المرحلة يتبنّى كلّ مطالب الحراك لكنّه لا يستطيع البوح بذلك بسهولة. أمينُه العام السيّد حسن نصرالله قال كلاماً في هذا الشأن يتطلّب فهمه لبيبٌ. في عمق وجدان حزب الله الجماعي شعورٌ يشبه التالي: “نحن مع كلّ مطالب هذا الحراك لكن يا ليت هذه المطالب جاءت على ألسنة غير أهل الانتفاضة”! حزب الله لا يستطيع أن يكون ضد الجانب الاجتماعي من الثورة. للتذكير فقط، هو جاء من رحم “حركة المحرومين”. طبعاً الحزب لا يستطيع أن يضع هواجسه المتعلّقة بالحراك جانباً خصوصاً أنّه متوجّسٌ أصلاً مما يجري في العراق. ليس بالقليل أن يرفع عراقيّون شيعة علم العراق على القنصليّة الإيرانيّة في كربلاء. معركة الحزب مختلفة عن معركة حلفائه. حلفاء الحزب لا يعرفونها وإن ادّعوا ذلك، ولا يفهمونها حتّى إن عرفوها. الحزب معركته إقليميّة دوليّة. هو في نزالٍ مع قوى كبرى.
المهم الآن أنّ جدلّياتَ الكلام انتهت عند أهل السلطة. رئيس الجمهوريّة توجّه إلى اللبنانيّين ثلاث مرّات. أعتقد أنّه كان رائعاً في المرّة الثانية. رئيس الحكومة توجّه إليهم ثلاث مرّات. الوزير جبران باسيل تحدّث إليهم مرتين، مرةً من قصر بعبدا ومرةً أخرى من بعبدا. الرئيس برّي “عَمْ يحكي بِلْوَمَا” هذه الأيّام. ليس لديه الكثير ليقوله. كلّ رجال السلطة غائبون عن الهواء إلّا في ما ندر. حسناً فعلوا. ليس لديهم ما يقولونه. وعندما يطلّون في الإعلام غالباً ما يطلّ المعتدلون من أمثال آلان عون. لكن، وماذا بعد؟ الكلام انتهى ولم يعُدْ مهمّاً. الآن وقتُ الخطوات العمليّة. أعتقد أنّ استشارات التأليف اقتربت جدّاً. رئيس الجمهوريّة جدّيٌ برغبته بتشكيل حكومة. التمسّك بأشخاصٍ من هنا وأشخاصٍ من هناك ليس مهمّاً الآن بالنسبة له. هذا لا يعني أنّه لا يفضّل غير ذلك، لكنّ حراك الشارع مستمرٌّ وتأثيره متراكم. رئيسا الجمهوريّة ومجلس النواب يدركان أنّ الحراك بالكاد يتحمّل عودة الرئيس الحريري، فكم بالحري إذا كان مطلوباً منه، أي الحراك، أن يتحمّل رموزاً في السلطة لا يرغب المنتفِضون في عودتها! لذا فإنّ عودة وزراء من مثل علي حسن خليل وجبران باسيل ليست محسومة بغضّ النظر عمّا يُقال هنا وهناك.
الحراك يكسب في كلّ يوم، وتزداد حكمته في كل يوم. كان جيّداً أمر فتح الطرقات، وإلا كان الموضوع سيرتدّ عليه من قبل الناس الذين أيّدوه. الحراك غير مضطرٍّ للتنازل الآن عن أيّ مطلب. هو يكسب بالمفرّق في كلّ يوم. قد يبدو أمرُ تسعير “تاتش” لبطاقات التشريج بالعملة اللبنانيّة إنجازاً غير مهمٍّ للبعض، لكنّه مهم. الأكثر أهميّة طبعاً هو الاعتقاد أنّ الوزراء، ولو عادوا جميعهم إلى الحكم، ليس لهم الجرأة أو القدرة الآن أن يفكّروا، ولو على مستوى التفكير فقط، بأن يلزّموا مشاريع مشبوهة، أو أن يمدّوا يدهم إلى المال العام. هناك حالة رعبٍ في قلوب هؤلاء حيال فعل ذلك. تحرّك القضاء هو نتيجة للحراك أيضاً. ما زال تحرّك القضاء خجولاً لكنّه لن يستمرّ كذلك لوقتٍ طويل.
الحراك الآن في بداية التحصيل. هو لا يستطيع أن يجني ثمار الانتفاضة مرّةً واحدةً ودفعةً واحدة وحيدة. تحصيل المكتسبات هي لكلّ الشعب. بشائرها بدأت بالظهور. يكفي أنّ يكون المزاج العام الآن أنّ لا عودة إلى الوراء. هذه الإنجازات ستتصاعد وستكون ظاهرةً بشكلٍ أكثر وضوحاً مع تشكيل الحكومة، وستتدرّج الإنجازات صعوداً وصولاً إلى الانتخابات النيابيّة.
وماذا عن حزب الله؟ لا شكّ أنّه المحاور الوحيد للحراك وإنْ لم يظهر الأمر كذلك. الحوار سيبقى بين الطرفين “على الهواء” في الوقت الحاضر. لكنّ الحزب تنازل، وسيتنازل بشكلٍ أوضح وأكبر في الأيّام القليلة المقبلة وخصوصاً عندما يطمئن أكثر إلى أنّ هذا الحراك هو صناعة لبنانيّة. المنتفضون يبدو أنّهم لا يطلبون طمأنينةً من الحزب. هُم ثوّار ليسوا بحاجةٍ إلى ضماناتٍ الآن.
إلى حين إجراء استشارات التكليف، ومن بعدها عمليّة التأليف، سيبقى الحراك في الشارع بأشكالٍ متنوّعة وقد تكون مختلفة عن ذي قبل. رحلة الحراك تشبه رحلة الألف ميل. بدأت الرحلة بخطوة كبيرة في 17 تشرين الأوّل. لكنّ الحراك لم يبقَ في خطوته الأولى. هو حقّق خطواتٍ أخرى. ليس الحراك انقلاباً عسكريّاً ليتغيّر كلّ شيء بين ليلةٍ وضحاها، ولا يريده الناس أن يكون كذلك وإنْ هتفوا بغير ذلك.
الانتفاضة تُرسي نهجاً جديداً. قد تخفّ يوماً وقد تكتسب زخماً جديداً في اليوم الذي يلي. الدرب طويل. إنجازات الحراك ستأتي على دفعات. لن تكون سلّةً متكاملةً وفي وقتٍ واحد. الحكومة التكنو-سياسيّة آتية. لا تستطيع السلطة أن تتأخّر أكثر. المهم أن يجري كلّ شيء بهدوء وبدون عنف، وأن يستشعر من هُم في السلطة أنّ زمن الكلام قارب على النهاية. والمهم أيضاً أن يستشعر الحراك الضرر الذي قد ينتج عن أيّ خطأٍ يرتكبه أو “دعسة ناقصة”.
هل سيتحاور الحراك وحزب الله مباشرة في يومٍ من الأيّام؟ ليس ذلك ضروريّاً. الحوار عبر الأثير جارٍ على قدمٍ وساق، وأعتقد أنّ الأيّام المقبلة ستشهد مزيداً من “العقلَنَة” وقليلاً من التهديد والوعيد، وإنّ الغدَ لناظره قريب.
سمير قسطنطين
أحدث التعليقات