صباح 10 تشرين الثاني 2019

السلطة ما زالت في إرباكٍ كبير حيال كيفيّة التعاطي مع الحراك. هي ما زالت في مرحلة الصدمة. حزب الله بنوعٍ خاص يعيش هذه الحالة. للمرّة الأولى يشعر الحزب أنّ الحكومة “فِلْتِتْ مِنْ إيدو”، ولا بديلَ متوفّراً الآن. لا حكومات غبّ الطلب. من يصدّق أنّ حزبَ الله الذي لم يعطِ الحريري الأب ولا الحريري الإبن ثقةً في مجلس النواب لأيٍّ من حكوماتهما، من يُصدّق أنّه متمسّكٌ بعودة الرئيس سعد الحريري! التيّار الوطني الحر يعيش بين النكران والتصلُّب. هو أيضاً لا يملك خارطة طريق، وإن كانَ قد بدأ بالخروج من الصدمة. حركة أمل والحزب التقدّمي الاشتراكي متمركزان في خطّ الدفاع الثاني. أيضاً لا رؤيا لهما حيال المستقبل، ولا أعتقد أنّ لهما قراءةً موضوعيّةً متجدّدةً في ما يجري.

وسائل الضغط على الحراك استُنفِدَت. الواضح أنّ العنف ليس خياراً، أقلّه حتى الآن. المنتفِضون سيقولون: “هذا ليس صحيحاً والدليل هو ما فعله أنصار الحزب والحركة في ساحة الشهداء قبل سبتَيْن من اليوم”. برأيي كانت تلك رسالةً إلى الرئيس سعد الحريري قُبيل تقديم استقالته، أكثر ممّا كانت رسالةً موجّهةً إلى الحراك. العنف غير وارد. السُنّة باتوا في خيَمَهم في ساحة الشهداء. حزب الله لا يتحمّل في لبنان “سيناريو” يُحاكي سيناريو اليمن والعراق. الشارع السنّي “لَبَّكْ” حزب الله. الحزب بذكائه تنبّه للخطورة، وامتنع عن العودة إلى الـ 2005 و2006.

السلطة انتقلَت إلى مرحلةٍ أُخرى هي أيضاً غير موفّقة. لسان حال السلطة هو: “قولوا لنا يا أهل الحراك ماذا تريدون”؟ في وسائل الإعلام التي تُوالي السلطة يتكرّر السؤال مع ضيوفٍ يُشبِهون الصفّ الخامس. نجومُ الصفّ الأول غيرُ قادرين على قولِ ما يرضي السلطة، ففي فمهم ماء. وهُم غير قادرين على قول ما يرضي الحراك، فبالنسبة للحراك “كلُّن يعني كلّن”. لذا تراهم “متوارين عن الأنظار” والشاشات.

السلطة تسأل الحراك ماذا يُريد. ومن يريد أن يهاجمَ الحراك يسأل: “لَوين آخدين البلد”؟ تحت عنوان “الحراك ماذا يريد”، تحاول السلطة أن تجد أشخاصاً تحاورُهم أو أن تلتقي وفداً منهم تُصغي إليه. لكنّ “الكبير والصغير والمقمّط بالسرير” يُدرك أنّ معرفة ما يريده الحراك ليس بحاجةٍ إلى دكتوراه من هارفرد ولا من السوربون. الحراك يريد تطبيق القوانين وخصوصاً تلك المتعلّقة بمكافحة الفساد. القوانين اللبنانيّة ليست سيّئة في هذا الموضوع. هي ناقصة، وتحديداً لجهة محاسبة المسؤولين الكبار، إنّما هي ليست سيّئة حتّى لمرحلةٍ مثل هذه المرحلة. ببساطة، لتذهبْ السلطة إلى تطبيق القوانين.

الحراك يُبدي نضجاً أكبر من ذاك الذي تُبديه السلطة. هو عدّل بخطابه في إثنتين على الأقل، الأولى في تخفيف الشتائم والسباب، وهذا برأيي يُخسّر الحراك، والثانية في عدم استعماله عبارات من مثل “الشعب يريد إسقاط النظام”. أعتقد أنّ النظام اللبناني، إذا أخذنا هذه الفسيفساء الطائفيّة والمذهبيّة اللبنانيّة بعين الاعتبار، أعتقد أنّنا لسنا بحاجةٍ لإسقاط النظام اللبناني، بل الحاجة هي لتطويره. عندما أتكلّم عن النظام فأنا أتكلّم عن الـ System، وليس عن الذين أداروا هذا الـ System منذ اتفاق الطائف. أدرك الحراك أنّ الجيران الذين طالبوا بإسقاط النظام إنّما كانوا يطالبون بإسقاطِ نظامٍ غير ديمقراطي. الوضع في لبنان يختلف.

الحراك اكتسبَ قوّةً وزخماً كبيرَيْن. هو خرج من الطرقات العامّة وهذا كان ضروريّاً. لذا عليه أن يحافظ على وضعه، وأن يُعزّزه وأن يتعفّف في موضوع ولوج السلطة. يجب أن يبقى الحراك شبيهاً بالناس الطيّبين الذين غصّت الساحات بهم وهي تغصّ كل ليلة. أتمنّى ألا ينخدعَ الحراك ببريق السلطة، وألا يتحمّس للانضمام إليها. الحراك بريء. في السلطة يوجد “لعّيبِة كشاتبين ما في يقطّع مَعُن”.

قوّة الحراك تتمثّل في بقائه على نقائه، وأن يكون حكومة ظل. اختبار حكومة الظلّ الأوّل هو يوم الثلاثاء. هل سيتضمّن قانون العفو العام عفواً عن الجرائم الماليّة؟ إذا كان الوضع كذلك، فماذا سيفعل الحراك، وكيف سيتصرّف؟ هذا استحقاقٌ أساس. مطلوبٌ من الحراك كحكومة ظلّ أن يرافق كلّ خطوةٍ بخطوتها لكلّ من الحكومة ومجلس النوّاب وأن يكون له رأيٌ وأن يكون الصوتُ مسموعاً ومدوّياً أيضاً، لكن من خارج اللعبة. وقوّة الحراك تكمن أيضاً في ألّا يسمّي أحداً إلى الحكومة الجديدة. في الحكومة الجديدة، سيوجّهون لوزراء الحراك، إذا جاز التعبير، اللوم على كلّ تقصيرٍ أو فشل. وللسلطة وأحزابِها ألفُ وسيلةٍ ووسيلة لإفشال وزراء الحراك. على الحراك ألا ينسى أن معظم الذين هُم في موقع المسؤوليّة في الدولة قد عُيِّنوا في هذه المناصب بسبب ولائهم السياسي. هؤلاء قادرون على إفشال وزراء الحراك. هذا لا يعني أنّ التكنوقراط لا يدخلون إلى الحكومة. على العكس. أنا أتحدّث هنا عن تكنوقراط يشبهون الحراك. وقوّة الحراك أيضاً تكمن في عدم التفاوض. الآن ليس وقت تفاوض. أنتَ تفاوض أحدهم لتقول له ماذا تريد منه. الحراك أبلغ السلطة عمّا يريده بألف طريقة. السلطة تعرف تمام المعرفة مطالب الحراك. عندما تبدأ السلطة بالتحرّك الجدّي لحلّ الأزمة وتحديداً لجهة تغيير النهج والأشخاص في موضوع مكافحة الفساد، يمكن للحراك ساعتئذٍ أن يبدأ بالتفكير في ما إذا كان يريد التفاوض أم لا. “لمّا بيوصل لَيَا، بيصلّي عْلَيا”. السؤال الذي قد يتبادر إلى أذهان مؤيّدي الحراك هو: “متى إذاً يدخل الحراك إلى السلطة”؟ والجواب، برأيي طبعاً، هو: “ليس قبل الانتخابات النيابيّة”. لكنّي أتمنّى أن تكون مبكرةً. قد تسألني: “وكيف نترك السلطة تفعل ما تشاء من الآن وحتّى الانتخابات النيابيّة”؟ جوابي هو: “الحراك لن يترك الحكومة الحاليّة المستقيلة أو تلك الجديدة تفعل ما تشاء، فالحراك هو حكومة ظلٍّ”. ليس من خوفٍ هنا في هذا المجال. المهم ألّا يُدغدغ بريقُ الكراسي قلوبَ أهلِ الحراك.

إذاً قوّة الحراك تكمن في أن يكون حكومة ظلٍّ، وأن يبقى خارج السلطة، وألا يستعجل على محاورة السلطة. فماذا عن قوّة رئيس الجمهوريّة؟

أعتقد أنّ الرئيس العماد ميشال عون الذي توجّس في بداية الحراك من أن يكونَ هذا الحراك “مدفوعاً” لتنفيذِ مؤامرةٍ ما، أعتقد أنّه غير متوجّسٍ الآن من الحراك وإنْ كان الوضع العام، وبشكلٍ عام، لا يُريحه. رئيس الجمهوريّة برأيي بات غير متمسّكٍ بتوزير أحدهم من هنا، أو بتمثيلٍ في الحكومة الجديدة يتلاءم مع حجم كتلة التيّار الوطني الحر. لم يعُد هذا همّه. هو الآن يريد الخروج من هذه الأزمة وخصوصاً أنّ استحقاقاتها الإقتصاديّة صعبة. هو يُدرك أنّه إذا تحمّل مسؤوليّة السنوات الثلاث الأولى من عهده، فهو قادرٌ أن يُنهي ولايته ويكون لبنان قد انتقل من مرحلةٍ إلى مرحلةٍ مختلفةٍ تماماً. لكنّ الخطر يكمن في عدم المبادرة. ساعتئذٍ هناك تخوّفٌ حقيقي من أن يواجه عبء السنوات الثلاثين التي مضت منذ إتفاق الطائف وهذا غير عادل له، ولا منصفٍ. فخامة الرئيس يُدرك أنّ حزب الله ما زال يرفض رفضاً تامّاً أيّ نوعٍ من التنازل الجدّي، التنازل بمعنى الـ Concessions الحقيقيّة. أعتقد أنّ رئيس الجمهوريّة بات جاهزاً لخطوةٍ ما. لكنّ الرئيس هو بين مطرقة الحلفاء غير المرِنين بسبب توجّساتهم وعيشهم لمرحلة الصدمة، وبين سندان الدستور الذي لا يمنحه كلّ الحيثيّات للتصرّف منفرداً. لذا أعتقد أنّ قوّة رئيس الجمهوريّة تكمن الآن في قدرته على الخروج إلى الناس ومكاشفتهم. إذا أعلن رئيس الجمهوريّة بشكلٍ واضح قبل التكليف أو بعده، أنّه مع حكومة أنقياء وهُم كُثر، وأنّه غير راغبٍ في المحاصصة، وأنّه مع رفع الغطاء عن كلّ المرتكبين من دون استثناء، وأنّه لا يُريد وجوهاً نافرة في الحكومة، وأنّه غير متمسّكٍ بأحد أو بشيء سوى طمأنَة مخاوف الشعب اللبناني وبالتالي قيادة لبنان إلى أُفقٍ جديد يستحقّه أبناؤه وبناته، أعتقد أنّ خطوةً من هذا النوع، وإنْ لم يكن لها مفاعيل دستوريّة فوريّة، فسيكون لها مفاعيل أساسيّة على مستوى وحدة الشعب اللبناني وعلى مستوى طُمأنينة الناس إلى البقاء في وطنهم.
باختصار، الوقت بالنسبة للحراك ليس وقت المبادرة باتّجاه السلطة. هو وقت التقييم والانتقال إلى المرحلة الثانية من المواجهة مع السلطة، ودائماً تحت سقف الدستور ومن ضمن ما تطلبه القوانين اللبنانيّة. فلا عنف ولا بذاءة. الثوّار ليسوا قطّاع طرق كما يحلو للبعض أن ينعتهم، لكنّهم بشر وقد يخطئون. إنّما هم ينضجون ويعدّلون في تحرّكهم، وفي مرّاتٍ كثيرة يتفوّقون على أنفسهم. وبالنسبة للسلطة، الوقت هو وقت المبادرة، ولا أرى أحداً قادراً على المبادرة سوى رئيس الجمهوريّة. بالنتيجة وبالواقع، هو المؤتمن على الدستور.

حمى الله لبنان، وألهمَ كلّ من هو في السلطة أو في الشارع حُسن التفكير والتصرّف.

سمير قسطنطين