صباح 12 تشرين الثاني 2019

لا شك أنّ قانون العفو العام الذي كان في رأس لائحة جدول الأعمال لجلسة اليوم التي أُلغِيَت، كان السبب الذي جعل الحراك يدعو إلى إضرابٍ عام. لم يكُن واضحاً في هذا القانون ما إذا كان يشمل العفو عن الجرائم الماليّة أيضاً. طبعاً، هناك أكثر من نصٍّ قانونيّ يؤكّد أنّ العفو عن الجرائم الماليّة لا يمكن أن يشملَه قانونُ عفوٍ عام مثل هذا. لكنّ الأكيد أيضاً أنّ أحداً من أهل السلطة لم يُكلِّف نفسه عناء توضيح هذا الالتباس للناس. المكابرة كانت عنواناً كبيراً في الأيّام القليلة الماضية.

لكنّ أمراً ما طرأ يوم أمس، جعلَ التواضع صورةً مُعمّمة للسلطة، وإن كان التصلّبُ غير الموفّق ما زال يظهر بعض الشيء. سُبحة التواضع بدأت مع اجتماع تكتل لبنان القوي الذي طالب بحكومة أخصائيّين تحظى بدعم الناس والمجلس النيابي. تقدُّمٌ كبير في الموقف. التيّار الوطني الحر يقبل بحكومة تكنوقراط أو أخصّائيين أو سمِّها ما شئت. لم يعد عدد وزراء التكتّل في الحكومة الجديدة مشكلة، ولم يعد توزير شخص منه مشكلة. النائب إبراهيم كنعان الذي تحدّث باسم التكتّل اعترف بأنّ الضغط الشعبي مهمٌّ لتعمل المؤسسات بالشكل الصحيح. فرقٌ كبير بين الخطاب السياسي الذي كان موجوداً قبل ثلاثة أسابيع وبين ما قيل أمس.

مشهد التواضع الثاني برز من عين التينة. رئيس مجلس النواب نبيه برّي، وفي خطوةٍ نادرةٍ، تحدّث شخصيّاً باسم كتلة “التنمية والتحرير”! نادراً ما يحصل ذلك. صحيحٌ أنّه اعتبر أنّ الحملة ضد الجلسة التشريعيّة تهدف الى إبقاء الفراغ السياسي القائم حالياً، وصحيحٌ أنّه تمسّك بعقد الجلسة النيابيّة المؤجّلة إلى يوم الجمعة المقبل، إلّا أنّه فعل أمرين إثنين: الأول، أجّلَ الجلسة ولم يذهب إلى المواجهة. ثانياً، طلب “رفع السرية المصرفية عن الجميع في الكتلة (رئيساً ووزراء سابقين وحاليين ونوابا)”، وعن وزراء الكتلة السابقين والحاليّين. كذلك طلب “رفع الحصانة إزاء أي محاسبة تتعلق بالمال العام”، داعياً الى الإسراع في “تأليف حكومة جامعة لا تستثني الحراك الحقيقي”.

الخطوة المتواضعة الثالثة جاءت من سماحة السيّد حسن نصرالله. بين ما قاله سماحة السيّد في إطلالتَيْه الأولى والثانية وما قاله أمس فرقٌ شاسع إن كان ذلك لجهة المضمون أو الشكل. في الشكل، كانت النبرة هادئة إلى حدٍّ كبير، وعيناه كانتا تبحثان عن حلٍّ. سماحة السيّد تدرّج من فكرة أنّ سقوط الحكومة ممنوعٌ، وهذا كان في البداية، إلى رفض فكرة حكومة التكنوقراط، وهذا جاء بعد أيّامٍ من الحراك، إلى “استمرار اللقاءات” كما قال أمس، ممتنعاً عن الكلام حول الوضع الحكومي. ماذا يعني ذلك؟ هذا يعني أنّ حزب الله بات مقتنعاً أنّ خيارات أكثر واقعيّةً باتت محتومة.

كذلك فإنّ السيّد لم يخوِّن الحراك، ولم يتحدّث عن تمويل سفارات، ولم يضع الحراك الشعبي في حضن حزبٍ ما كما فعل والتيّار الوطني الحر في البداية. هذه المرّة قال سماحته: “كنت دائماً أدعو إلى التركيز على الإيجابيات … هناك نقاط أساسيّة إجماعيّة بين الكلّ، أبرزها استعادة الأموال المنهوبة، ومحاكمة الفاسدين”. السيّد ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، وأعطى Credit للحراك قائلاً: “أنّه بفضل ما حصل لا يمكن لأحد أن يحمي فاسداً سواء كان حزباً أو سياسياً أو مرجعيّة دينيّة أو طائفة”، واصفاً الأمر بأنّه “تطور إيجابي”. أكثر من ذلك، توجّه الأمين العام لحزب الله إلى “مجلس القضاء الأعلى” مباشرةً وطلب منه بوضوح “إبدأوا بملفّاتنا إذا كنّا متورّطين”. وأضاف السيّد: “المطلوب اليوم من مجلس القضاء الأعلى والقضاة أنفسهم القيام بثورة لأن لديهم الفرصة التاريخية”. سماحة السيّد يُدرك تماماً أنّه قادرٌ على أن “يفك رقبة إسرائيل” وأن يذلّها في كلّ لحظة، لكنّه مُدركٌ أيضاً أنّ شعبَه موجوعٌ، وأنّ مقاربة التعاطي في الشأن الداخلي هي غيرها في النزال مع إسرائيل. كلامٌ كبيرٌ فيه الكثير من التواضع والواقعيّة.

كلام التيّار الوطني الحر وكتلة التنمية والتحرير وحزب الله كان واقعيّاً يوم أمس. ماذا يعني كلُّ ذلك؟ هذا يعني أنّنا في مرحلةٍ مختلفة الآن. الحراك كان بدأ ينضج منذ اللحظة التي قرّر فيها الخروج من الشارع إلى الساحات. اليوم هو اليوم الأول لنضوج السلطة. الخطوة الأولى للنضوج هي التواضع. يوم أمس كان وقت المشهد الأول للتواضع.

باختصار، الحراك هو في المكان الأقوى الآن. هذه القوّة يجب أن تتزيّن بالتواضع وقوّة أخلاقيّة الآن. “السلطة ملّيقة”. القوّة مجلبةٌ للفساد. كلّنا نعرف المثل الأميركي الشهير: Power Corrupts and Absolute Power Corrupts Absolutely أي أنّ “القوّة تفسد والقوّة المطلقة مفسدةٌ مطلقة”. أليس هذا ما حصل مع أهل السلطة منذ ثلاثين عاماً وحتّى اليوم؟!

أعتقد أنّنا ذاهبون إلى مرحلةٍ أكثر نُضجاً من المواجهة. قوّة الحراك أن يبقى “حكومة ظلٍّ” و “مجلس نوّابٍ ظل”. عليه ألّا يتوجّس من الاسبوع المقبل تاريخ انعقاد الجلسة النيابيّة المؤجّلة. الرئيس برّي سيرى نفسه مضطرّاً لتأجيلها. إذا تأجّلت الجلسة تحت الضغط، فإنّ وضع المجلس لن يكون مختلفاً كثيراً عن وضع الحكومة المستقيلة. هو سيصرّف الأعمال لا أكثر. أتمنّى أن يفعل الرئيس برّي ذلك منذ الآن، وليس تحت ضغط الشارع لكن في النهاية “المجلس سيّد نفسه”. الأيّام المقبلة ستشهد بداية، وأُشدّد على كلمة بداية، مرحلتَيْن مترابطتَيْن: الأولى تتمثّل في مكافحة جدّية للفساد، والثانية عبر اختفاء رموز الفساد عن ساحة الشأن العام تباعاً. المسيرة طويلة. الحراك في الطريق الصحيح. للسلطة خيارٌ واحد لا أكثر هو الانتقال من مرحلة التواضع إلى التنازل وهو يتمثّل باختصار بالتالي: القبول باقتلاع الفساد، والإقرار بانتهاء عهد الفاسدين، والذهاب بوجوهٍ جديدة ونهجٍ جديد نحو لبنان جديد.

سمير قسطنطين