صباح 16 تشرين الثاني 2019

السلطة والحراك خطّان متوازيان. لا يلتقيان. الحراك يريد إسقاط السلطة (ولا زلتُ أعتقد أنّه لا يريد إسقاط النظام بل السلطة)، والسلطة تريد إسقاط الحراك. في طريقِه لإسقاط السلطة، إستعمل الحراك كلّ الأساليب المُتاحة من تظاهرات وإغلاق طرقات وتجييشٍ للرأي العام إذ أنّ وسائل الإعلام المرئيّة الأساسيّة أعطَت الحراك فرصةً نادرةً لإسماع صوته. وفي طريقها لإسقاط الحراك، إستعملَت السلطة أيضاً كلّ الوسائل المُتاحة من تخوينٍ للدوافع (خصوصاً في مرحلة البدايات)، إلى صمِّ الآذان الذي تحسّن وضعَه قليلاً منذ أسبوعين، إلى الإعتداءات على المتظاهرين كما حصل أكثر من مرّة في ساحتَي رياض الصلح والشهداء، إلى وضع الجيش في مواجهة الناس كما حصل في مناطق المتن وكسروان وبعبدا بنوعٍ خاص. أفتحُ هلالَيْن لأقول أنّ المتظاهرين الذين “أكلوا قتلة” من عناصر الجيش كانوا يقولون أمام الكاميرات: “نحنا مع الجيش هودي إخواتنا” ! أعتقد أنّه ومع اقتراب عيد الاستقلال ومناسبات توزيع الأوسمة، أعتقد أنّ السلطة مدعوّةٌ لإعطاء هؤلاء المنتفضِين الذين لن يستطيع أحدٌ أن يضعهم في مواجهة الجيش أو أن يجعلهم يكرهون الجيش لا سمح الله، أوسمةً ذهبيّة من رتبة “مواطن درجة أولى” وأكثر.
السلطة والحراك إذا لا يلتقيان، إلّا طبعاً عبر الأثير. لكنّ هناك قاسماً مشتركاً بينهما، وقلقاً متشابهاً يجمعهما هو: “كيف نحافظ على المكاسب”؟

السلطة تدافع عن مكاسبها. ينتابها قلقٌ عميقٌ من حكومةٍ لها سلطةٌ على محاكمة رموز الفساد. الإرباك كبير. بعض السلطة الآخر، وتحديداً حزب الله له قلقٌ من نوعٍ آخر وهو ألا تأخذه أيُّ حكومةٍ جديدة إلى ما لا تُحمد عقباه بالنسبة له، وخصوصاً لجهة النزال الدائر في المنطقة بين الولايات المتّحدة وإيران. لكنّ الحزب يبدو أكثر نُضجاً من حلفائه في موضوع مطالب الحراك. هو أكثر نُضجاً من حركة أمل لجهة الاعتراف علناً بالفساد وتأكيده على أولويّة محاربة الفساد في أوّل حكومة تتشكّل. والحزب، أكثر نُضجاً من التيّار الوطني الحر لجهة تمثيل تطلّعات الحراك في الحكومة الجديدة، ولا أقول تمثيل الحراك، لأنّ الحراك يجب أن يبقى سلطة ظلٍّ، في الحكومة الجديدة. التيّار الوطني الحر، “إذا بْتِرْجع إلو”، يريد حكومةً فيها تكنوقراط على أن تسمّيهم الكُتل السياسيّة. حزب الله في المقابل، موافقٌ على أن يكون أكثر من نصف أعضاء الحكومة من التكنوقراط من دون شرط تمثيلهم للكتل السياسيّة. السلطة غير مستعدّةٍ للتنازل أكثر من ذلك. هي تتهرّب من المحاسبة. أهون على الفاسد أن يذهب البلد إلى فوضى ولا أقول إلى “حربٍ أهليّة” من أن يذهب إلى السجن. طبعاً هي، أي السلطة، باتت مستعدّةً ولو على مَضَض أن تُعطي الوزارات التي تتعلّق بالاقتصاد الوطني من مثل الطاقة والاقتصاد والماليّة والأشغال والتربية وغيرها إلى أخصائيّين أو اختصاصيّين.

ومن أجل الحفاظ على مكاسبها، فإنّ السلطة تراهن على ضَعْضَعة الحراك. أعتقد أنّها نجَحَت في فعل ذلك جزئيّاً في الأيّام الثلاثة الماضية، أكان ذلك من خلال مواجهات الشارع مع الجيش (أُشدّد على أنّ المنتفِضين لا يريدون نزالاً مع الجيش لأنّهم يحبّونه ويحتضونه)، أو كان ذلك من خلال تيئيس الناس عبر إبلاغهم بطريقةٍ أو بأخرى أنّ مطالبَهم لن تُلبّى. الغريب في الموضوع هو أنّ الرئيس السوري بشّار الأسد كان أكثر إنصافاً للحراك من المسؤولين اللبنانيّين. هو قال أمس: “الأهم أن تبقى الأمور في الإطار الوطني لأنها ستكون لها نتائج إيجابية ولأنها تعبِّر عن الشعب”، وإن كان قد نبّه إلى إمكانيّة التدخّل الأجنبي في الحراك عندما قال: “لكن عندما يدخل العامل الأجنبي، فستكون ضد مصلحة الوطن”. كلامٌ أكثر إنصافاً للحراك من كلام معظم من في السلطة في لبنان. الأسد إعتبر الحراك وطنيّاً وإن كان حذّر ممّا يمكن أن يحدث لاحقاً.
في المقابل، الحراك حقّق مكاسب كثيرة وهو يريد الحفاظ عليها. الحراك كسر حاجز الخوف من التعبير عن الحقوق. الحراك أوصلَ السلطة إلى مكانٍ أشعرَها أنّها لا تستطيع أن تُكمل طريقها في الفساد الوقِح. الحراك وحّد اللبنانيّين وإن ظهر في الأيّام القليلة الماضية شيئاً من ثورةٍ درزيّة في خلدة والشويفات، وقليلاً من أُخرى سنيّة في سعدنايل، وبعضاً من ثورةٍ مسيحيّة في ساحل المتن. طبعاً هذا لا يُفيد الحراك وليَ عودةٌ إليه. الحراك أيضاً أكّد المؤكّد وهو أنّ الناس متفرّقين أقوى من السياسيّين مجتمعين. أوهامٌ كثيرة سقَطَت في الأسابيع القليلة الماضية. وأخيراً ألزَم الحراك أهلَ السلطة بأن يعترفوا أنّهم لن يمثّلوا وحدَهم في ما بعد الحياة السياسيّة في لبنان.

لكنّ الحراك، وإذا أراد فعلاً الحفاظ على هذه المكاسب وغيرها، عليه أن يلتفتَ إلى أمرَين اثنين.

الأمر الأول هو أن يُنقّي نفسه. لا يستطيع الحراك أن ينتفض ضدّ السلطة وأن يأخذَ لنفسه صورة “سِلفي” معها. إذا كان الحراك يرفع شعار “كِلّن يعني كلّن”، فهذا يعني أنّ “زعيمي أنا” لا يُستَثنى. إذا كان الوضع غير ذلك، فسيعتبر آخرون أنّ حراككَ هو ضد رئيس الجمهوريّة تحديداً أو ضدّ رئيس مجلس النواب، وهذا يجعل رفقاءك في الحراك متوجّسين وقلقين ومشكّكين في ما يقومون به هُم. وتنقية الذات تشمل أيضاً الابتعاد عن تأثير الأحزاب على الحراك. الأحزاب موجودة، والحزبيّون هُم أبناء الوطن. هُم أوّلاً مواطنون وموجوعون، ولا أحد يمكنه أن يمنعهم من التعبير. هُم ليسوا فئةً منبوذةً من الناس. لكن وفي الوقت نفسه، إذا أرادت الأحزاب لهذا الحراك أن يستمر ويُثمر، عليها أن تُدرك أنّه يتوجّب عليها ألّا تحبّ الحراك والمنتفضين حبّاً من نوع “من الحبّ ما قتل”. لا يُفيد الحراك كثيراً أن يُعلن حزب الكتائب مثلاً أنّه يدعو مناصريه للمشاركة في الحراك. هناك كتائبيّون كُثُر شاركوا في الحراك منذ اللحظة الأولى وخصوصاً في المتن الشمالي، لكنّهم شاركوا كمواطنين وليس ككتائبيّين. وعندما نزل رئيس حزب الكتائب الشيخ سامي الجميّل إلى ساحة جلّ الديب أشعرَه المتظاهرون على الفور بأنّ الساحة ليست ساحته وإن كانوا لم يقلّلوا الاحترام له. هو تصرّف بذكاء وانسحب بعد دقائق من وصوله. إذا أراد حزب الكتائب وحزب القوات اللبنانيّة والحزب التقدّمي الاشتراكي وتيّار المستقبل الخيرَ فعلاً لهذا الحراك، فليتركوه للناس الذين نزلوا في 17 تشرين الأول وفي اليوميَن التاليَين لبدء الحراك. طبعاً يمكنهم المشاركة كمواطنين. هُم من أهل المناطق التي تتظاهر، لكنّ وسمَ الحراك في أيّ منطقة بوسمةٍ حزبيّة لا يُفيد، فأجندات الأحزاب واهتماماتُها قد تتقاطع في بعضٍ منها مع اهتمامات المنتفضِين لكنّها ليست بالضرورة هي نفسها. على الحراك أن يربحَ في كلّ يومٍ خصماً لا أن يخسر صديقاً.

أعتقد أن الثوّار الدروز والمسيحيّين، وسامحوني على هذا التوصيف، يمكنهم أن يتعلّموا الكثير من ثوّار طرابلس. طبعاً في طرابلس منتفضون مسلمون ومسيحيّون، لكنّ طرابلس بما تمثّل في الوجدان الجماعي السنّي، بقيَت بعيدةً عن مظاهر لا تُشبه الثورة الحقيقيّة.
الأمر الثاني والأخير الذي من المُستحسَن أن يُفكّر به الحراك ويُدركه هو أنّ المسيرةَ طويلةٌ، وهي لن تكون قصيرةً على أيّ حال. لعلّ محطّة قطف الثمار الأولى ستكون في الانتخابات النيابيّة المقبلة. ومن هنا فإنّ النَفَسَ الطويل مطلوبٌ، وتنقيةَ الذات ضروريّةٌ، والتركيزَ على الفساد لا على إهانة الناس مستحسنٌ، والانتقالَ من الطرقات العامّة إلى الساحات حيويٌّ، والبقاءَ على أهبة الاستعداد لمنع تمرير قانونٍ في غير وقته حتميٌّ، والتمسّكَ بدورٍ واحدٍ وحيد في الوقت الحاضر وهو أن يكون حكومة ظلٍّ ومجلس نواب ظلٍّ أساسيٌّ، وكلّ ذلك بهدف بناء الدولةِ وإعلاء شأن لبنان. كلّ ما عدا ذلك لا يُفيد الحراك.

الحراك مدعوٌّ إلى العودة إلى الجذور وهو لم يهجرها يوماً، إلى الشعارات الأولى، وليتذكّر دائماً أنّه حصراً ضد الفساد ومع تكوين سلطةٍ قد لا تمثّل في الوقت الحاضر كلّ أحلامه، لكنّها على الأقل تشكّل بدايةَ مرحلةٍ جديدة وإنْ غير طوباويّة على طريق بناء الدولة.

في الساحةِ طرفان هما السلطة والحراك. هما لا يلتقيان إلّا حول موضوعٍ واحد وإن من نظرتين مختلفتين. الموضوع هو: “الحفاظ على المكاسب”. السلطة “عم تِسْتَقْتِل” للحفاظ على المكاسب، فهل يفعل الحراكُ الأمر نفسَه؟

سمير قسطنطين