صباح 22 تشرين الثاني 2019

السلطة ما زالت غير واثقة في حركتها. هي تُبادر أحياناً، وتتمنّع عن المبادرة أحياناً أخرى حتى ولو كانت المبادرة مطلوبة لا بل محتومة. الحراك في المقابل غيرُ قادرٍ على المبادرة في موضوع الحل. السلطة ليست بيده. هو فقط يبادر في التعبير عمّا يريد. السلطة لم تبادر إلى إجراء استشارات نيابيّة بهدف التكليف.هي بالتالي لم تبادر إلى تشكيل حكومةٍ تمثّل في الحدّ الأدنى جواباً مُطمئِناً للشارع. كذلك كان من المتوقّع أن تبادر السلطة إلى التنازل عن حماية الفساد والفاسدين من صفوفها، وأن تحثّ القضاء لكي ينطلق. القوانين الموجودة لمحاربة الفساد ليست سيّئة. هي لم تفعل بالقدر الكافي.
على الضفّة الأخرى من النهر، ترى السلطةَ تبادر في أمكنةٍ ومواقع يستغربها الحراك. هي بادرَت مرّتين لتمرير قانون عفوٍ عام، قال كثيرون عنه أنّه يتضمّن عفواً عن الجرائم الماليّة. لم يُكتب للمحاولتَيْن النجاح. كذلك بادرت السلطة، وقبل إجراء استشاراتٍ نيابيّة، إلى شبهِ تعيينٍ لرئيسٍ مكلّفٍ للحكومة يبدو أنّه لا يُحاكي تطلّعات الناس. سقَطت المحاولة قبل أن تولد. السلطةُ إذاً تبادر، لكنّ مبادراتها تسقط واحدةً تلو الأخرى. هي إمّا متسرّعة مثلما تسرّعت في الإعلان عن تكليف الصفدي، أو غير مرِنة ومتمسّكة بمواقفِها كما فعلَتْ مرّتَين في موضوع قانون العفو العام.

الحراك من جهته، لا يستطيع أن يبادر. هو لا يستطيع أن يجري مشاورات للتكليف، ولا يقدر أن يدعو إلى جلسة تشريعيّة لمجلس النواب، ولا يمكنه تشكيل حكومةٍ ولا شيء من هذا القبيل. لكنّ الحراك حجز لنفسه مكاناً على صعيد الاحتفاظ بحقّ الفيتو، وهذه هي الورقة الأقوى في يده.

أولاً، سجّل الحراك الفيتو الأوّل له على الجلسة النيابيّة التي كانت ستُعقد الأسبوع الماضي. أسقطها. ثانياً، أسقط الحراك محاولة تكليف الوزير السابق محمد الصفدي تشكيل الحكومة. وُلِد الإعلان عن تكليف الصفدي ميّتاً. ثالثاً، أسقط الحراك عبر الفيتو الجلسة النيابيّة التي كانت مقرّرة يوم الثلاثاء الماضي. ولا بأس أن أُضيف رابعاً من الفيتوات أدّى إلى انتخاب ملحم خلف نقيباً للمحامين. لا أُحاول القول أنّ المحامي الذي كان مرشّحاً لرئاسة النقابة ولم يحالفه الحظ ناضر كاسبار يمثّل السلطة. إطلاقاً، فللرجل تاريخٌ من العصاميّة والمواقف والحضور. لكنّي أُريد أن أقول أنّ ملحم خلف، وهو إن لم يأتِ من الحراك، فقد أتى من المجتمع المدني الذي تماهى في مرّاتٍ كثيرة مع الحراك، وإن كان الحراك قد تخطّاه هذه المرّة في النضال. في الجولة الثانية من الاقتراع، إجتمعت كلّ الأحزاب التي تمثّلُ السلطة حول كاسبار، لكنّ خلف فاز بفارق ألف صوت، وللرقم دلالة. علماً وللأمانة أقول أنّ مئاتٍ من المحامين الحزبيّين صوّتوا لخلف وإلا لكان الفارق أقلّ. على ماذا يدل ذلك؟ هو يدلّ على أنّ الحزبيّين بدأوا يسألون أنفسهم أسئلةً حول خيارات قياداتهم السياسيّة.

مشهدُ النزال بين السلطة والحراك إذاً بات يُختَصَرُ بالمعادلة التالية: للسلطة حقُّ المبادرة، وللحراك حقّ الفيتو. الحراك يقول “لا” عندما يكون غير مقتنعٍ. قد لا يتمكّن الحراك من أن يأتي بـ “ملحم خلف” إلى كلِّ موقعٍ يريده، لكنّه بالتأكيد قادرٌ على التلويح بحقّ الفيتو، أو في الحدِّ الأدنى بالضغط باتّجاه خياراتٍ أكثر ملاءمةً لتطلّعات الناس.

إلى أين يتّجه هذا النزال بين مبادرات السلطة وفيتوات الحراك؟ لا أحدٌ يدري. لكنّ كلّ يومٍ يمرّ من دون مبادراتٍ لا تستجلب الفيتوات، من شأنه أن يقصّر عمر الأزمة، وأن يمنعَ الزمن الصعب من الوصول.

سمير قسطنطين