صباح 30 تشرين الثاني 2019
يبدو أنّ الرهانَ على تعبِ الحراك لم يحقّق نجاحاً حتّى الآن، ويبدو أنّ النجاحَ لن يُكتَبَ له. جرّبَتْ السلطة أساليب كثيرة تراوَحَتْ من محاولة الاستمالة في أقصى اليمين، إلى تخويف الناس بالذاكرة السوداء لشرارة الحرب في عين الرمانة – الشياح في أقصى اليسار. لم تنجح السلطة. الحراك لا دخل له بكلّ ذلك. هو لم يفتعِلْ المشكلة، ولم يشارك في التوتّر. هذه رسائلُ تهديدٍ من بعض السلطة إلى بعضِها الآخر. الحراكُ يشبه النساء اللواتي نزلنَ بالورود من عين الرمّانة، واستُقبِلنَ بالأرزّ في الشياح. الفاسدون والطائفيّون يلوّحون تكراراً بكلِّ ما يذكّرنا بالحرب الأهلية ويستحضرون ناسَهم لإنعاشها في مخيّلتنا، لكنّ الحراك لا يشبههم بشيء.
بعض الإعلام ما برح منذ انطلاق الحراك يستجلب شبح الحرب الأهليّة. لكن في الحراك سنّةٌ من غير المستقبل، ودروزٌ من غير الحزب التقدّمي الاشتراكي أو مناصري الأمير طلال إرسلان، وشيعةٌ وإن كانوا مقاومين ضد إسرائيل حتّى الرمق الأخير، لكن لا دخلَ لهم بالثنائي الشيعي، ومسيحيّون من خارج اصطفافات القوّات اللبنانيّة والتيّار الوطني الحر. فمن سيقاتل مَنْ في هذا الحراك!
كذلك فإنّ التوتّرَ الذي حصل في بكفيّا بين موكبٍ للتيّار الوطني الحر كان عابراً في البلدة، وبين حزبيّين كتائبيّين من البلدة، لا دخلَ للحراك فيه. التيّار الوطني الحرّ ممثّلٌ في السلطة، وحزب الكتائب مُمَثّلٌ في مجلس النوّاب، وإن كانَ الحزب الآن خارج الحكومة. طبعاً إقفال الطرقات بوجه أيّ لبنانيٍّ لا يشبه الحريّة التي ينشدها الجميع. البعض يقول أنّ التيّار لم يتصرّف بحكمةٍ حين أرسلَ هذا الموكب إلى بكفيّا. ربّما في هذا الكلام شيءٌ من المنطق. لكنّ كلّ المنطق يقول أنّ أيّ لبنانيٍّ يحقّ له المرور في أيِّ منطقةٍ كانت ما دام هو ملتزماً القوانين اللبنانيّة. وإلّا ماذا تعني مطالبتكَ بـ “سيادة، حريّة، استقلال”؟
لكن وفي كلِّ حال، الحراك لا دخلَ له لا من قريب ولا من بعيد في الصراع السياسي القائم منذ الـ 2005 بين تيّار المستقبل والحزب التقدّمي الاشتراكي والقوّات اللبنانيّة والكتائب من جهة، والتيّار الوطني الحر وحزب الله وحركة أمل من جهة ثانية. الحراك لا دخلَ له بما تفعله أحزاب 14 آذار أو بما تقرّره أحزاب 8 آذار. كلُّ هذه المشاهد المؤسفة التي رأيناها في مطلع الأسبوع هي فصولٌ من حرب السلطة على السلطة. إذا استثنينا الكتائب، فالكلّ كان موجوداً في الحكومة قبل الاستقالة، أليسَ كذلك؟ السياسيّون يريدون إدخال الحراك بهذا النفق، لكنّ الحراك واعٍ. هوَ لن يدخل. السلطة ما زالت تلعب بأحجار الداما القديمة ذاتها. مؤسف.
وجهُ السلطةِ الجميل هو “الجيش”، وبحروفٍ ذهبيّة كبيرة. هو خلقَ لعبةَ التوازن: ممنوعٌ إسقاط النظام في الشارع، وهذا حقٌّ. وفي المقابل، ممنوعٌ ترهيب الناس، وإن كان ذلك يحصل من وقتٍ لآخر، لكنّه محدودٌ في الزمان والمكان والفعاليّة.
أزمةُ البنزين وكيف تعاطى معها الناس تشبه الحراك. الناس موجوعة. شَكَت همّها لبعضها في الشارع.
للحراكِ همٌّ واحدٌ وقضيّةٌ واحدة فقط لا غير: “مكافحة الفساد” ونقطة على السطر. هذا ما يفعله الحراك في كلّ يوم، وهذا ما يربِكُ السلطة. لو انجرَّ الحراك إلى العنف، لكان لعبَ لعبةَ السلطة وسقط فيها. هي تجيدُها أكثر منه. لكنّ الحراك متمسّكٌ بفكرة “سلميّة سلميّة”. التشويه سائرٌ على قدمٍ وساق. لا بأس. من كان يظنّ في العراق والعالم العربي أنّ المرجع الشيعي الأعلى في العراق آية الله علي السيستاني سيحثّ البرلمان على سحب الثقة من حكومة عادل عبد المهدي؟ هي دعوة أتتْ غداة يوم من الاحتجاجات هو الأعنف من حيث عدد القتلى الذين سقطوا في صفوف المتظاهرين. لا أحد كان يظنّ ذلك لكنّ المرجعيّة فعلتْها. هكذا أمورٌ تأخذ مداها، لكنّها تتغيّر نحو وطنٍ أفضل للناس.
المهمّ أن يتمسّك الحراك دوماً بالمطلب الواحد: “مكافحة الفساد”، وألّا يحيدَ عنه وألا يضيّع البوصلة. هذا هو الأمر الوحيد الذي يربك السلطة، ويجعلها غير قادرةٍ على المبادرة خارج سياق تلبية مطالب الناس.
سمير قسطنطين
أحدث التعليقات