صباح 14 كانون الأول 2019

السلطة ما زالت مربكة. هي بدأت تدرك أنّ الناس فعلاً “موجوعة”. اختفى حديثها بشكلٍ شبه كامل عن مناقيش السفارات. اكتشف السياسيّون متأخّرين أنّ بومبيو لا يحرّك الحراك، وليس هو سبباً له. هذا لا يعني أنّه لا يحاول الاستفادة منه. لبنان بلدٌ مفتوح، والكلُّ يركبُ كلّ الموجات. هُم ليسوا “سانت ريتا”. الكلُّ موجودٌ وله ناسُه. لكنّ الجهاز الأقوى الذي حرّك الناس في 17 تشرين الأول هو “جهاز رفض الفساد والجوع والعَوَز”. الخطاب السياسي بدأ يصبح أكثر واقعيّةً. رئيس التيار الوطني الحر الوزير جبران باسيل اعترف قبل يومين أنّ “الناس سبقتنا وقلبت هي الطاولة”. غابت الاتهامات للناس بأنّها ضدّ العهد (هي ليست كذلك)، ولم يحضر دور القوّات بتحريك المظاهرات. حتّى سماحة السيّد، فقد قال يوم أمس: “لم يُطرح في التظاهرات في لبنان شيء له علاقة بإيران، كانت الشعارات تتعلق بقضايا اقتصاديّة ومطلبيّة”. لم يسجّل السيّد على الحراك لا تهمةً ولا عتباً حتّى. الرئيس الحريري أدرك قبلهما أنّ الاستقالة لا بُدّ منها “تجاوباً لإرادة الكثير من اللبنانيّين الذين نزلوا إلى الساحات للمطالبة بالتغيير”. هكذا قال يوم استقال في نهاية تشرين الأول الماضي.

السلطة باتت تُدرِك أمرين إثنين: أوّلاً، أنّ الناس تحرّكَت لأنّ “الجوع كافر” كما يحلو لزياد الرحباني أن يغنّي، وثانياً، أدركت السلطة أنّها لا يمكن أن تفسد بعد الآن بالشكل الذي فسدت فيه منذ الطائف وإلى اليوم، هذا الفساد الذي تعزّز في العقد الأخير على نحوٍ غير مسبوق. لكن أين نقطة الخلاف الأساسيّة مع الناس؟ السلطة تطلب من الناس فرصةً جديدةً وأخيرة لكي تبرهن “حُسنَ سلوكها”، والناس غير قادرة على إعطائها هذه الفرصة. هذه نقطة الخلاف. السلطة تشبه الأهل الذين يعرفون تماماً أنّ سلوكيّات ولدهم في المدرسة غير مُرضية وقد أعطتهم المدرسة وأعطت الولد عشرات الفرص لتعديل السلوك لكنّ الولد لم ينتفع. يذهبُ الأهل إلى إدارة المدرسة ليطلبوا فرصة جديدة وأخيرة. أعتقد أنّ السلطة جادّةٌ هذه المرّة في محاولتها “تهذيب الفساد” وليس اقتلاعه. وأعتقد أنّ الناس جادّون في مقولتهم “مين جرّب مجرّب كان عقلو مخرّب”. لذا ترى السلطة مرتبكة. المجموعات السياسيّة لم تقرّر حتّى الآن من تريد رئيساً مُكلّفاً، وماذا تريد. هي غير قادرة أن تقرّر فيما الاستشارات باتت على مرمى 48 ساعة. توجُّس سماحة السيّد من موضوع الحكومة صحيح. هو على حق في قوله: “تشكيل الحكومة لن يكون سهلاً”. السبب لا علاقة له بحجم التمثيل في مجلس النوّاب. الأزمة تخطّت هذه التقسيمات والعدديّات، وإن كان السياسيّون ما زالوا يستحضرونها في خطاباتهم. السبب هو في هويّة الحكومة. هل هي من الاختصاصيّين فقط برئاسة الحريري؟ هل هي من الاختصاصيّين فقط برئاسة من يزكّيه الحريري من مثل تمام سلام؟ هل هي تكنوسياسيّة برئاسة الحريري يكون وجود الأحزاب فيها محدوداً؟ أم هي تكنوسياسيّة برئاسة من يزكّيه الحريري يكون وجود الأحزاب فيها محدوداً؟

أعتقد أنّ عودة الرئيس الحريري إلى السراي ليست مضمونة وهي غير مستحبّة من قِبَل المنتفضين. على مستوى العدد هي مضمونة أو شبه ذلك، وإن كان ذلك سيعني أنّ على حزب الله أن يغيّر الآن عاداته ويسمّيه رئيساً مُكلّفاً، وأن يعطيه الثقة لاحقاً في مجلس النوّاب. لكنّ موضوع العدد الآن ليس مهمّاً ولا يعني الكثير. تكليف الرئيس الحريري يوم الإثنين غير مضمون. وإذا كُلِّف الإثنين، فالتشكيل غير مضمون. ولعلّ الاستشارات برمّتها يوم الإثنين قد تأتي بنتائج غير مضمونة أيضاً، هذا إذا حصَلَت. أعتقد أنّ الرئيس الحريري أخذ فرصتَه برئاسة الحكومات، أقلّه في الزمن الحالي. هو جرّبها. الآن الأمر مختلف عمّا سبق.

ما المطلوب إذاً؟ مرتا المهتمّة بأمورٍ كثيرة، المطلوب منها أمران إثنان وليس أمراً واحداً. أولاً، مطلوبٌ منها القبول بتشكيل حكومةٍ تكنوسياسيّة برئاسةِ شخصٍ يطمئن له اللبنانيّون والسنّة والرئيس الحريري، وأن تكون كلّ الوزارات المُتعلّقة بالاقتصاد فيها بعهدة الإختصاصيّين، وأن يكون فيها وزراء سياسيّون بأعداد قليلة لطمأنة حزب الله فقط. وثانياً، أن تُطلق يد القضاء على نطاقٍ واسع وأن تتحرّك النيابات العامّة باتّجاه الجميع وليس انتقائيّاً ولا كيديّاً. النظيف لا يخاف، ولا يخشى فتح الملفّات. كلُّ ما هو دون ذلك سيكون مضيعةً للوقت ومجلبةً للإنهيار السريع.

سمير قسطنطين