صباح 16 كانون الأول 2019

الناس مشغولون هذا الصباح بما حدثَ في وسط بيروت ليلة أمس. كُلُّنا تسمّرنا أمام شاشات التلفزة نشاهد بحزنٍ ما يحصل هناك … من جسر الرينغ إلى بيت الكتائب المركزي في الصيفي. المنتفِضون من كلّ لبنان كانوا هناك، ومناصرون لأحزابٍ هي ضد الحراك كانوا هناك، والقوى الأمنيّة كانت هناك. البلد كلّه كان في “البلد” ليلة أمس.
لكنّي اليوم مشغولٌ بما حصل في مكانٍ آخر، وتحديداً في الـ Assembly Hall في الجامعة الأميركيّة. بحسب الظاهر، فإنّ غي مانوكيان يعزف وفرقته في رسيتالٍ ميلادي. لكن في الحقيقة، لم يكن مانوكيان هو الحدث كما يحصل في كلّ مرّة يعزف فيها. ولم يكن الرسيتال موضوع حديث الناس بعد انتهائه. الحدث كان ردّة فعل الناس على دخول الرئيس الأسبق للحكومة فؤاد السنيورة إلى الأسمبلي هول. وقف الناس، لا ليصفّقوا له طويلاً كما يجري عادةً عند دخول مسؤولٍ حكومي إلى احتفال، بل ليصرخوا بأعلى حناجرهم: “سنيورة برّا برّا”.

اللبنانيّون المنقسِمون حول تفسير ما جرى ويجري في الداون تاون، بسبب قراءاتهم المختلفة للحراك وردّة الفعل على الحراك، لا أعتقدهم سيختلفون على تفسير ما جرى مع الرئيس السنيورة. الموضوع كان واضحاً وضوح الشمس في عزِّ وقت الظهيرة. هو ببساطةٍ كاملة ومختصرة: “مزاج الناس قد تغيّر”.

من يحضر رسيتال الميلاد للموسيقي غي مانوكيان في الجامعة الأميركيّة؟ يحضر هذه المناسبة مثقّفون وأساتذة جامعيّون ومحبّون للموسيقى وتلاميذ جامعيّون. لا تستطيع أن تقولَ عن الحضور في مناسبةٍ مثل هذه أنّهم “مندسّون” ولا حتّى “متظاهرون سلميّون” كما وصَفَتهم وزيرة الداخليّة ريّا الحسن ليلة أمس. الذين يشاركون في مناسبةٍ هي من صلبِ تقاليد الجامعة الأميركيّة هُم أُناس من كلّ لبنان ويمثّلون بالحد الأدنى جوّاً ثقافيّاً راقياً. لا أعتقد أن الحاضرين هُم مناصرون لحزب الله. فيهم الكثير من “البيارتة” حتّى.
المشكلة التاريخيّة للثائرين في كلِّ مكانٍ في العالم هي مع هؤلاء الناس لأنّهم لا ينفعلون مثلهم أو لا يتفاعلون إيجابيّاً مع مطالبهم. المثقّفون يأخذون وقتهم قبل التورّط عاطفيّاً في قضيّةٍ ما إذا جاز التعبير. هؤلاء بالذات هُم الذين وقفوا وصرخوا وطالبوا الرئيس السنيورة بالخروج من القاعة. موقفٌ لا لُبسَ فيه. واضحٌ كلّ الوضوح.

في هكذا حالةٍ، لا يعود مهمّاً أيّ تفسيرٍ لما حصل ليلة السبت – الأحد، وليلة الأحد – الإثنين في وسط بيروت. لم يعُد مهمّاً ما إذا كان شباب خندق الغميق هُم الذين نزلوا إلى ساحة الشهداء وحرقوا بعض الخيَم أم أنّ شبّاناً آخرين أتوا من أكثر من منطقة وتجمّعوا في خندق الغميق، هُم الذين فعلوا ذلك.

قبل شهرٍ بالتمام، أي في 16 تشرين الثاني، قال الرئيس السنيورة كلاماً في الحراك هذا حرفيّته: “يفترض بالجميع أن يأخذ بالاعتبار تطوّر الأمور في ضوء هذه الحركة النهضويّة والانقاذيّة التي يقوم بها شابات وشبّان لبنان، والتي أحدثت تغييرا كبيرا في البلد. إنني أعتقد أن لبنان ما قبل 17 تشرين الأول غير لبنان ما بعد 17 تشرين الأول، وهذه الحركة التي عبّر عنها أولئك الشباب والشابات تُختصَر بأنه ينبغي على اللبنانيّين أن يتصرّفوا كمواطنين وليس فقط كأعضاء او أفراد في طوائف ومذاهب”. لكنّ هذا الموقف المتفهّم للحراك، لا بل المتعاطف معه ربّما، لم يُنقِذ الرئيس السنيورة ممّا وقع فيه ليلة أمس.

الذين كانوا ضدّ الحراك منذ البداية سألوا أنفسَهم والآخرين عشرات الآلاف من المرّات: “ماذا فَعَلَت لنا الثورة”؟ أعتقد أنّ ما حصل منذ شهرين وحتّى اليوم أنتَجَ أمراً واحداً أساسيّاً وهو أنّ مزاج الناس قد تغيّر. ويبدو أن المزاج قد تغيّر بشكلٍ لا رجعة فيه أي Irrevocable. هذا ما حصل في هذين الشهرين. الناس بدأت تعيش حالةً نسمّيها بالـ Zero Tolerance تجاه الفساد، وهذه ظاهرةٌ تستحقّ الدرس جيّداً. في بلدانٍ مثل الولايات المتّحدة ودول أوروبّا، فإنّ القانون هو الذي يوصل الناس إلى هكذا حالٍ معطوفاً طبعاً على ما تعلِّمُه المدارس للأولاد حول موضوع رفض الفساد. في لبنان، الشارع علّم الناس فكرة الـ Zero Tolerance تجاه الفساد. طبعاً أنا لا أُريد استباق القضاء تجاه الرئيس الأسبق للحكومة. القضاء يقرّر في ملفّه المفتوح. وغريبٌ ألا يقرّر القضاء حتّى الساعة براءته أو إدانته. وبطبيعة الحال، لا أسمح لنفسي أن أشمت لا سمح الله بأحد. إطلاقاً، فهذه ليست قِيَمي. كلامي ليس حول السنيورة بقدر ما هو مزاج الناس.

قد نختلف حول تفسير ما حصل في وسط بيروت، لكن هل نختلف حول قراءة ما حصل في الأسمبلي هول؟ هل هذه هي بداية لما سيكون موقف الناس العلني حيال السياسيّين الذين تدور حولهم علامات استفهام متعلّقة بالفساد من الآن وصاعداً؟

سمير قسطنطين