22 كانون الأوّل 2019

السلطة التي ارتبكَت لأكثر من شهرين اقتنعَت أخيراً أنّها لن تستطيع إكمال المسيرة على الشكل الذي مَشَت فيه لعقودٍ ثلاثة. حتّى اللحظة الأخيرة حاولَت السلطة استيلاد نفسها عبر إصرارها على تسمية الرئيس سعد الحريري من جديد. لكن الرجل تنحّى. الزمن لم يعد زمنُه. هو يعرف أنّ اللبنانيّين أصدروا حُكماً على الحكومة المستقيلة بالنهاية غير السعيدة، وهو يُدرك أنّ الدَعمَيْن الأميركي والسعودي لم يعودا متوفّرَين له.
حزب الله وحركة أمل والتيّار الوطني الحر سارعوا إلى تسمية حسّان دياب. هذا أزعج الحراك قليلاً وأقلق شارع الرئيس الحريري ولا أقول الشارع السنّي. وما حصل في كورنيش المزرعة والطريق الجديدة في الأيام الثلاثة الماضية لا دخْلَ للحراك فيه. هو شكلٌ آخر من أشكال حرب بعض السلطة على بعضها الآخر. لكن عودة الرئيس الحريري كانت مستحيلة. البلد أصبح في مكانٍ آخر.

بسبب هذه التسمية لحسّان دياب من قِبَل ثلاثة مكوّنات سياسيّة، سارع كثيرون إلى الاستنتاج أنّ الحكومة الجديدة ستكون حكومة حزب الله. لكن هذا ليس صحيحاً. المكوّنات الثلاثة “لحّقوا حالُن” لا أكثر ولا أقل. كان قادتها أذكى من غيرهم. هُم لم يصنعوا الموجة. هُم ركبوها وحفظوا ماء وجوههم ليس إلّا، فوقت التغيير قد حان، وقد دقّ جرس المدرسة إيذاناً بخروج التلاميذ من الملعب وعودتهم إلى الصفوف. طالَت فرصة “الساعة 10” ثلاثين سنة.

حسّان دياب قد لا يكون الشخص المثالي لرئاسة الحكومة. لكن سمّوا لي شخصاً مثاليّاً واحداً من السياسيّين الحاليّين. سارع البعض إلى إطلاق اتّهامات باتجاهه. “بيصبغ شعرو” قال لي أحدُهم. آخرون تحدّثوا عن تغيير إسم مدرسة لتحمل إسم أُمّه. “شو هالخطيّة المُميتة هيدي” ! هناك سياسيّون أسموا ثروات البلد على أسماء أولادهم وتحمّلنا. آخرون قالوا أنّه أصدر كتاباً عن إنجازاته كوزيرٍ للتربية على حساب خزينة الدولة. إذا لم يستطِع معارضو حسّان دياب أن يروا أكثر من ذلك في أخطائه، فهذا نيشانٌ على صدره.
خيار حسّان دياب قد لا يكون الخيار المثالي، لكنّه حتماً خيار يمثّل روحيّة مطالب الحراك. وإذا شكّل حكومةً جاء معظم ناسها من المستقلّين وليس من التكنوقراط فقط، نكونُ قد مشينا خطوةً إضافيّة نحو تحقيق مطالب الحراك التي هي حتّى الآن مطالب الشعب اللبناني كلّه. لم يكُن ممكناً في الوضع الحالي فعل أيّ أمرٍ آخر أو أفضل.

إذا عُدنا إلى تصريحات السياسيّين في الشهرين الماضيَيْن، سوف نرى من جديد أنّ هذا الخيار لم يكن ممكناً لا من قريب ولا من بعيد. لكن السلطة التي صُدِمت في بداية الحراك، وعاشت النكران في ما بعد، ومن ثمّ اختارَت التعنُّت موقفاً لها، كان يجب أن تختار أخيراً واحداً من إثنين: فإمّا الذهاب إلى المواجهة مع الحراك وكسرِه، وقد رأينا نماذج فاشلة منه ليل السبت – الأحد قبل ثمانية أيّام، وإمّا البدء بعمليّة التنازل. هذا الأسبوع اختارت السلطة الخيار الثاني. أدرَكَت السلطة متأخّرةً أنّ الزمن تغيّر. للمرّة الأولى منذ اتفاق الطائف ذهبَ الخيار باتّجاه إسمٍ من خارج الـ Establishment. لم يُكلَّف أيٌّ من الرؤساء السابقين، أبناء البيوتات السياسيّة، بتشكيل الحكومة. لا الرئيس نجيب ميقاتي كان مطروحاً، ولا تمام سلام، ولا سعد الحريري، ولا أيّ شخصٍ من آل كرامي. كان الخيار خيار حسّان دياب. هذا هو الـ Maximum الذي يمكن فعله في هذه المرحلة. البلد في مرحلة تغيير. ليس صحيحاً أنّ خطّاً سياسيّاً قد انتصر على الخطّ السياسي الآخر. هذا وهمٌ. الغالب الوحيد هو الشعب اللبناني. هذا إنجازٌ للحراك أكثر أهميّة من إنجاز إسقاط الحكومة السابقة. والإنجاز الأهم من هذين الإثنين سيكون نوع وزراء الحكومة، وصولاً إلى الإنجاز الكبير وهو الانتخابات النيابيّة المقبلة وعساها تكون مبكرة.

هذا الإنجاز يتمثّل باختيار شخصٍ لم يرتبط إسمه بالفساد. من غير الممكن أن يكون شخصٌ نائباً للرئيس في الجامعة الأميركيّة طوال هذه الفترة وهو فاسدٌ. عدا عن ذلك، فإنّ الرجل هو نائب رئيس الجامعة للبرامج الخارجيّة الإقليميّة تحديداً، أي Vice President for Regional External Programs. هذا يعني أنّ جزءاً كبيراً من عمله هو مع الجهات الدوليّة المانحة للجامعة الأميركيّة. فكيف يكون شخصٌ أميركيُّ الهوى إلى هذا الحد رئيساً لحكومة حزب الله؟! هذا غير ممكن. حزب الله أذكى من غيره في قراءة الاتّجاهات المحتومة. صحيح أنّه يناور كثيراً، لكنّه في النهاية أدرك أنّ زمن التغيير قد أتى. هو أيقنَ أنّ دفاعه عن السلطة بات مكلِفاً جداً له. وهو، وإن كان خيار عدم استقالة حكومة الرئيس الحريري خياراً أوّلاً له، إلا أنّه اقتنع أنّ ناسه موجوعون بسبب الفساد، وأنّه لا يمكن البقاء على هذه الوتيرة من استفحال الفساد. الحزب يريد منقذاً. كثيرون ظنّوا أنّه “عم يعمل نكايات بسعد الحريري”. ليس صحيحاً. هو أراد منقذاً من هذه الهوّة التي أوقعنا فيها السياسيّون الذين حكموا البلد. كان حسّان دياب هذا المنقذ في مهمّةٍ مستحيلة. الكلُّ الآن ملزمٌ بإنجاحه. حتى وزير الخارجيّة في الحكومة المستقيلة جبران باسيل الذي قال في وقتٍ سابق أنّ التيّار لن يكون في حكومة من التكنوقراط لأنّها ستفشل، أعتقد أنّه غيّر رأيه. هو يُدرك أنّ الأحزاب السياسيّة ملزَمة بمساعدة حسّان دياب. الثنائي الشيعي من جهته إنسحب الآن من الواجهة. عندما يقول الرئيس المُكلّف أنّه لم يلتقِ أحداً من حزب الله قبل تشكيل الحكومة، فهو صادق. طبعاً هو سيلتقي بالحزب، ولمَ لا؟ فالأخير مكوّن أساسي من الشعب ومن المجلس النيابي. التيّار يريد أن يوحي أنّه هو الذي كان وراء الحكومة. لكن هذا ليس صحيحاً. الحراك هو الذي أتى بهذه الحكومة. في 16 تشرين الأوّل الماضي، أي قبل يومٍ واحدٍ من بدء الحراك، لم يكن أحدٌ في السلطة السياسيّة اللبنانيّة يظن أو يحلم بأن يكون التغيير كبيراً إلى هذا الحدّ في مدّة شهرين فقط.
الناس المؤيّدة للحراك، والتي هي الحراك نفسه، عليها أن تتعلّم أنّ صراخَها في الشارع بدأ يثمر، لكنّ المظاهرات والهتافات وما شابه هي شكلٌ واحدٌ فقط من أشكال النضال ولا يختصرها كلّها. بكلّ الأحوال، فإنّ موقف الحراك من الرئيس المُكلّف مقبولٌ جدّاً. من البديهي أن يلتقي الحراك مع الرئيس المُكلَّف. الحراك هو الجهة الوحيدة التي لها قدرة الضغط عليه. السياسيّون لا يقدرون على الضغط الآن. “بدهُن السترة”.

كلّ ما هو مطلوبٌ من الحراك هو أن يقدّم ورقة مطالب يحدّد على أساسها كيفيّة تعامله مع الحكومة المقبلة. فإذا لبّت الحكومة هذه المطالب، وهذا ليس سهلاً في خضم الأزمتَين الاقتصاديّة والنقديّة، فالحراك يكون داعماً. وإذا تقاعست الحكومة عن فعل ذلك، فإلى الساحات من جديد. ضغط الحراك الإيجابي على الحكومة يجب ألا يتوقّف ولا للحظة واحدة. على الحراك أن ينتظر وألا يكون سلبيّاً الآن. يجب على الحراك “إنّو يلطي ورا الكوع” إنّما بمقاربة تقييميّة واقعيّة وإيجابيّة، وأن يكون مستعدّاً للتدخّل عند أيّ تقصير. على الحراك أن يصدّق أنّ السياسيّين خائفون منه. الحراك لا يصدّق ذلك. السياسيّون يعتبرون الحراك أقوى بكثير ممّا يعتبر الحراك نفسه قويّاً. كلّهم غارقون في مياه السلطة. هُم يائسون من الوضع. “بدهُن حَجْ خلاص”.

حسّان دياب يشبه إلى حدٍّ بعيد سليم الحص. الحص أتعبَ السياسيّين كثيراً. في مرّاتٍ عدّة ندِموا على تسميته رئيساً للحكومة. لكنّ الحص دخل السياسة نظيفاً وخرج منها نظيفاً. طبعاً البعض يأخذ عليه مآخذ عدّة من زمن الحكومتين. أنا واحدٌ من هؤلاء. باعتقادي لم يكن ممكناً فعل أيّ أمرٍ آخر آنذاك وسط النفوذ السوري. لكن على مستوى نظافة الكف، كان الرجل عفيفاً حتى اللحظة الأخيرة، ويشهد له خصومه بذلك قبل محبّيه.
مجيء الأميركيّين في يوم مشاورات تشكيل الحكومة يقول الكثير. وما قاله دايفيد هايل يقول أكثر وأكثر. هايل تحرّك ضمن خمس Premises، حدّد فيها مواقف تجاه: الشعب اللبناني، والسياسيّين، والحراك، والقوى الأمنيّة، والفساد. كلامٌ باتجاهاتٍ خمسة لا لُبسَ فيها.

عن موقف الولايات المتّحدة حيال الشعب اللبناني، كان موقفه واضحاً عندما استعمل عبارة “كلّ الشعب اللبناني”. هو قال: “الولايات المتحدة تريد للبنان وشعبه – كلّ شعبه – النجاح، ونحن سوف نستمرّ شريكًا ملتزمًا في هذا الجهد”. هايل لم يستثنِ حزب الله من تمنيّاته بالنجاح من ضمن الشعب.

للسياسيّين الحزبيّين قال: “لقد حان الوقت لترك المصالح الحزبية جانباً”.
وعن الحراك قال: “إنّ الاحتجاجات الجامعة، وغير الطائفيّة، والسلميّة إلى حدٍّ كبير على مدى الأيّام الـ 65 الماضية، تعكس مطلب الشعب اللبناني الطويل الأمد في إصلاح اقتصادي ومؤسساتي، والى حكم أفضل”.

وللقوى الأمنيّة قال من مجلس النوّاب، وهذا له مدلوله: “إنّ الولايات المتحدة تدعو القوى الأمنيّة إلى مواصلة ضمان سلامة المتظاهرين أثناء مشاركتهم في التظاهرات السلميّة”.
وعن الفساد قال من عند الرئيس الحريري: “لفترة طويلة جدّاً، أعطى عدد كبير من القادة هنا الأولويّة للمصالح الحزبيّة أو المكاسب الشخصيّة على المصلحة الوطنيّة”. ومن هناك وَصَفَ الفساد بالـ “مستشري”.

وسط هذه المعطيات يتحرّك حسّان دياب. في اللغة الإنكليزيّة هناك قولٌ مأثور هو: The Jury is Still Out، أي أنّ هيئة المحلّفين (القضاة) ما زالت خارج القاعة. الحراك ينتظر الآن قليلاً، يراقب، يكون حكومة ظلٍّ، والأهم من ذلك كلّه يبدأ الاستعداد والتحضير للانتخابات النيابيّة المقبلة على أساس برنامجٍ يجب أن يضعه.

وللذين لم يصدّقوا بعد أنّ البلد يتغيّر، عنوانٌ جديد في رئاسة الحكومة. في كلّ يومٍ سيكون هناك دليلٌ جديد.

سمير قسطنطين