عبر إذاعة “صوت لبنان” – ضبيّة
لم تُستعمل كلمةٌ في الأشهر الثلاثة الماضية كما استُعمِلَت كلمة “فساد” وأخواتها. يُعرِّف معجم أوكسفورد الإنكليزي الفساد بانه “انحرافُ أو تدميرُ النزاهة في أداء الوظائف العامّة من خلال الرشوة والمحاباة”.
أودّ القول بادئ ذي بدء أنّ الفساد في لبنان ليس وليد الأمس. هو كان قائماً منذ أن كان لبنانُ دولةً. كامل مروّة، الصحافي اللبناني الذي اغتيل في الستّينات من القرن الماضي، كتب في أيلول من العام 1952 في افتتاحيّةٍ له في صحيفة “الحياة” بعنوان “مش أنا” هذه الكلمات: “إننا نشهد في هذه الأيام معركةً إسمها “مش أنا”. فبين رجال الحكم من أركان ووزراء ونوّاب مسابقةٌ فريدة من نوعِها، غايتُها منع تحديد التبعات في الفساد الذي تشكو منه البلاد، بالتنصّل منها دون تعيين المسؤولين”. انتهى الاقتباس. هذا الكلام كُتِب قبل حوالى السبعين سنة. من يصدّق؟!
في لبنان إذاً فسادٌ مستحكم منذ عقودٍ وعقودٍ، لكنّ الفساد الذي حصل مؤخّراً بدءاً من اتّفاق الطائف وصولاً إلى السنوات العشر الأخيرة “صار عَ المكشوف”، وبعينٍ وقِحة على قاعدة “على عينك يا تاجر”. لا خجل ولا وجل ولا شيء من هذا القبيل.
من هُم الفاسدون؟ ما هي أنواعهم؟ هل هُم واحداً وبنفس الحجم؟ وهل يفسدون بالطريقة ذاتها؟ طبعاً لا وإن كانوا جميعاً فاسدين.
الفاسد الأوّل هو فاسدٌ كبير. هو يخوض غمارَ عشرات التلزيمات والتنفيعات والتوظيفات الجماعيّة و”مِش فارقة معو”. يشعر بأنّه فوق الحساب، أقلّه في هذه الدنيا وفي هذا البلد. “إيدو طايلة”. لا يوقّع لكَ قراراً بتلزيم طريق من دون أن يكون شريكاً. لا يسمح لكَ باستيراد موادٍ معيّنة لصالح الدولة من دون أن يضمن الكوميسيون كاملاً ونقداً. كبار المقاولين أصدقاؤه. كبار رجال المال يتسابقون لاستضافته في قصورهم. هُم يطلبون رضاه. كبريات الشركات الأجنبيّة التي تريد أن تستثمر في لبنان تُدرِك أنّ لها ممرّاً إلزاميّاً هو هذا الرجل. هو يأتي إلى السلطة فقيراً أو متوسّط الحال أو ثريّاً، فتزداد ثروته أضعافاً أو يخرج من فقره إلى الثراء الفاحش.
الفاسد الثاني هو “فاسدٌ صغير”. هو جديدٌ في عالم الفساد. يرضى بالفتات الساقط من مائدة الفاسد القوي. لعلّه حاول أوّلاً ألا يقع في الفساد لكنّ تجربة المال ليست سهلة. أَوَلم يقل يسوع أنّ “محبّة المال أصلُ كلِّ شرٍّ”؟ هذا الفاسد الصغير “دنّا نفسو” من أجل حفنةٍ من الدولارات. هي لا تُقاس بما يفعله الكبار في هذا المجال. هو طبّق المثل القائل بالإنكليزيّة: If you can’t beat the system, join it. وهذا يعني أنّك إذا لم تستطِع أن تغلب النظام القائم، إلتحِق به. هذا الفاسد يلتحق بالفساد متأخّراً. يحاول “إنّو يلحّق حالو”.
وأمّا الفاسد الثالث فهو فاسدٌ بسبب جُبنِه. يكون وزيراً. يمرّ أمامَه على طاولة مجلس الوزراء مشروعٌ لشقّ طريق أو لاستيراد موادٍ أوليّة، أو طلبُ موافقةٍ لسفرةِ وفدٍ فضفاض، أو طلب تعيينات لا لزوم لها أو خارج القانون كما حصل قبل سنتين في توظيف خمسة آلاف شخصٍ لأسبابٍ انتخابيّة. يمكنكَ أن تزيدَ على اللائحة ما شئت. تمرّ هذه المشاريع الصفقات أمامه. هو لا يستفيد منها. هو لا يُطلِقها. ولعلّه لا يريدُها أيضاً. لكن عندما يحينُ وقتَ التصويت عليها، فهو يصوّت لصالحها. هو يُدرك أنّ مناطقَ لبنانيّة بـ “إمّا وبيّا” لا تدفع فواتير الكهرباء، لكنّه لا يفتح فاه. هو يعرف أنّ الميزانيّة المرصودة لهذه الجمعيّة أو تلك تفوق الحدّ المعقول لكنّ الجمعيّة تخصّ زوجة أحد النافذين، فيصمت. هو نائبٌ في مجلس النوّاب. هو يُدرك أنّ هناك صناديق ومجالس خارج المساءلة، لكنّه يوافق على رصد مبالغ خياليّة لها في الموازنة. هو فاسدٌ بسبب جُبنِه وليس فاسداً بسبب تورّطه.
الفاسد الرابع الممكن هو القاضي كفردٍ والقضاء كحالة. هل تعلم أنّ المدّعين العامّين ليسوا بحاجةٍ إلى طلبٍ من حكومة أو مجلس نوّاب لكي يتحرّكوا ويدّعوا على مشتبهٍ به من هنا أو على فاسدٍ محتمل من هناك؟ القضاء، وتحديداً المدّعي العام، هو ضمير المجتمع. هو الذي يحفظ حقّ الدولة، الحقّ العام. المدّعي العام المالي، على سبيل المثال لا الحصر، هو أقوى من أيّ وزيرٍ أو نائبٍ أو رئيس. إذا هو أراد أن يفتحَ ملفّاً، فلا توجدُ في الجمهوريّة اللبنانيّة قوّةٌ تستطيع إيقافه. لكنّ المشكلة هي أن بعضاً من المدّعين العامّين أو المحامين العامّين أو مفوّضي الحكومة أو من يشبههم في موقعه قد عُيّنوا في مراكزهم بضغطٍ من السلطة السياسيّة وليس بقناعةٍ من السلطة القضائيّة. لذا ترى القضاءَ جامداً وسط بحرٍ هادرٍ من الفساد. فالقاضي الذي عيّنه السياسي لن يفتح ملفَّ هدرٍ أو فسادٍ يطال هذا السياسي. وإن فتحَ ملفّاً، فإنّك سوف ترى أنّ أصحاب هذه الملفّات هم من جهةٍ سياسيّةٍ واحدة غالباً ما تكون في تلك المرحلة خارج الحكم.
الفساد أصدقائي فسادٌ، أكان الفاسدُ كبيراً ومتجذّراً، أم فاسداً صغيراً، أم فاسداً جباناً، أم فاسداً قاضياً ولا يقضي بالحق والعدل. كلّهم يسيئون إلينا كمواطنين. كلّهم غير بريئين من دم هذا “المعتّر” … لبنان.
سمير قسطنطين
أحدث التعليقات