تشكيل الحكومة يفتح شهيَّتي على التأمُّل بمفهوم السلطة بمعنى الـ Authority، ومفهوم القوّة بمعنى الـ Power. لهاتَين العبارتَين في اللغة الإنكليزيّة مدلولات في عالَمَي السياسة والإدارة أكثر تعبيراً ممّا لها في الشرق الأوسط. هي عبارات من صلب الثقافة الغربيّة. نحنُ، ثقافتنا “السياسيّة” وحتى “المانجماتيّة”، مُترجَمة أكثر ممّا هي منبثقة من مسيرةٍ مجتمعيّة أو مؤسّسيّة. لكن لا بأس في التأمُّل بعض الشيء إذْ هو يُضيء قليلاً على أنواع السلطة والقوّة في لبنان.

السلطة! العبارة التي من أجلها مات أو قُتل عشرات الملايين من الناس في العالم.

في لبنان، كبُرنا ونحن نسمع عبارات مثل هذه: “السلطة الإجرائيّة”، وهي التي كانت منوطةً قبل الطائف برئيس الجمهوريّة يعاونه الوزراء، و”السلطة التشريعيّة” ويُقصد بها مجلس النوّاب، و”السلطة التنفيذيّة” وتُقصد بها الحكومة. وسمعنا أيضاً عن سلطةٍ مستقلّة عن كلّ هذه السلطات وهي السلطة القضائيّة. ويحلو لأهل الإعلام أن يُشبِّهوا عملهم بالسلطة فيسمّونه “السلطة الرابعة”. هذا التقسيم للسلطات هو تقسيمٌ هيكليٌّ Structural دستوريٌّ قانونيّ.

على خطٍّ موازٍ لهذه التقسيمات، وفي مراتٍ عدّة، نسمع عباراتٍ مثل هذه: سلطة ديمقراطيّة، سلطة قمعيّة، سلطة ديكتاتوريّة. بعبارات كهذه، نحن في الواقع نتحدّث عن كيفيّة ممارسة السلطة أكثر ممّا نتحدّث عن أنواع السلطة.

في المؤسّسات التجاريّة وغيرها، وعندما تتحدّث عن السلطة، فإنّك غالباً ما تعني القوة والقدرة على اتخاذ قرارات تحدّد سلوك الآخرين وتصرّفاتهم. في المؤسّسات هناك ثلاثة مستوياتٍ من السلطة: “السلطة التنفيذيّة”، ويكون لصاحبها الحقُّ في اتّخاذ قرارات خاصة بتنفيذ الأعمال. و”السلطة الاستشاريّة”، وهي السلطة الممنوحة لشخصٍ أو فريقٍ ما لتحضير توجيهاتٍ وتوصيات واقتراحات. صاحب هذه السلطة لا يستطيع إلزام الآخرين بتنفيذ اقتراحاته، وإن كان يتمتّع بوافرِ العلم والخبرة والمعرفة في دائرة تخصّصه. و”السلطة الوظيفيّة”، وهي السلطة التي يستمدُّها صاحبُها من الخدمات التي يؤدّيها إلى الوحدات الإداريّة الأخرى، وليس بحكم كونه رئيسًا عليهم كما في حال السلطة التنفيذيّة. خُذ مثلاً على ذلك سلطة رئيس قسم تدريب الموظّفين على موظّفي الأقسام الأخرى.

لكنّي أُريد اليوم الإضاءة على أربعة أنواعٍ من السلطة إنّما بمعنى الـ Power أو القوّة وكيفيّة تطابقها مع الأزمة الحاليّة والوضع القائم. أولاً، القوّة القسريّة Coercive Power، وهي السلطة القائمة على الخوف أو قمع الحريّات أو استخدام أسلوب العقاب للمحافظة على بقائها والتي غالباً ما ينتج عنها استياءٌ كبير وغضب بين الذين تُمارَس عليهم هكذا سلطة. على مستوى هذه القوّة أي القوّة القسريّة، فإنّنا نراها أحياناً في الشارع كما حصل مرّات عدّة وخصوصاً في ساحة النجمة قبل اسبوع عندما كان التصويب بالرصاص المطّاطي على العيون مباشرةً. كان هناك استعمالٌ لفائض القوّة، الأمر الذي دفع وزيرة الداخليّة السابقة والمدير العام لقوى الأمن الداخلي إلى الاعتذار والتوضيح. بول كروغمان، اقتصادي أمريكي فاز بجائزة نوبل للاقتصاد عام 2008 كتب مرّةً قائلاً: “السياسة تحدد من له السلطة وليس من عنده الحقيقة”.

ثانياً، قوة الخبرة أو قوة الخبير Expert Power. منبع هذه القوّة هي المعرفة التخصّصيّة. مع هكذا أشخاص، أنتَ غالباً ما تثق في قدرتهم على فهم الوضع التقني للأمور وقدرتهم على حلِّ المشاكل الناتجة عن العمل. هنا يُبدع الناس ويشرقون. على مستوى قوّة الخبرة أو قوّة الخبير، فإنّ الحكومة الجديدة أتَت بوزراء يملكون الخبرات المطلوبة في الجانب التقنيِّ في عمل وزاراتهم في أكثر من وزارةٍ. حاكم مصرف مثلاً له قوّة الخبير لكنّ هناك كلاماً كبيراً حول السياسات الماليّة والنقديّة التي اتّبعها ومدى مسؤوليّتها عن الانهيار الحاصل. ثالثاً، القوّة الشرعيّة أي الـLegitimate Power، أو الـ Positional Power التي يستند فيها القائد إلى موقعه في الهيكليّة الإداريّة على قاعدة “أنا الوزير أنا بقرّر” أو “أنا القائد العسكري الفلاني، القرار لي”. على هذا المستوى، وفي لبنان، هناك مجلس نوّاب لا نستطيع أن نقول عنه أنّه غير شرعي، لكنّه بنظر الكثير من الناس فَقَدْ فَقَدَ صفتَه التمثيليّة بوقت قياسيٍّ منذ انتخابه. جورج برنارد شو، الكاتب الفرنسي ذو اللسان اللاذع، وردّاً على المقولة السائدة أنّ”السلطة تُفسد” أي Power Corrupts، قال: “السلطة لا تُفسد الإنسان؛ لكن عندما يصل الأغبياء إلى موقعِ سلطةٍ، فهُم يفسدون السلطة”.

رابعاً وأخيراً، القوّة المرجعيّة Referent Power حيث تلجأ الناس لصاحب هذه القوّة لتستأنس برأيه في الصعوبات أو الأزمات. لا يكون لهذا الشخص موقعٌ قياديٌّ أو إداريٌّ، وغالباً ما يكون من خارج الـ Establishment. هو ليس وزيراً ولا نائباً ولا شيئاً من هذا القبيل، لكنّك ترى الناس تستشيره في أمورٍ كثيرة. هو غالباً ما يكون Low Profile لا يطمح لأيّ مركزٍ أو موقعٍ. بالنسبة لقوّة المرجعيّة في هذه المرحلة بالذات، فنحن في وضعٍ لا نُحسد عليه. هؤلاء باتوا نقداً نادراً في الوطن، وإن وُجدوا، فلا أحد يسألُهم رأيهم.

في هذه الأيّام يشهد الوضع ممارساتٍ لكلِّ أنواع القوّة. لكنّ السؤال الكبير في هذه اللحظة هو: هل تشكيل الحكومة من اختصاصيّين لهم الـ Expert Power أو قوّة الخبرة يكفي لهذه المرحلة؟ وإن كان هؤلاء فعلاً مستقلّين وبعضهم كذلك، كيف “بدّن يقطعوا خيطان” مع جيش المستشارين والمدراء العامّين في الوزارات؟ أختم بعبارة قالها إدموند بيرك، الفيلسوف ورجل الدولة البريطاني الذي عاش ومات في القرن الثامن عشر، قال: “كلما كانت السلطة أكبر، كلما كان سوء استعمالها أكثر خطورة”.

سمير قسطنطين