السلطة في لبنان ما زالت غير قادرة على إدارة الأزمة. هي مرتبكة ارتباكاً كبيراً منذ 17 تشرين الأوّل. تختفي السلطة في جناحها الخارج منها وفي جناحها الباقي لفترةٍ، ثم تطلّ في تغريداتٍ واحتفالاتٍ وذكرى وذكريات. المؤتمرات الصحافيّة قلّت وتيرتها كثيراً، “ما بقى إلُن عين”. تسمعُهم، تقرأُهم، تتابعُهم. تحتار هل تبكي على وطنك أم تضحك على نفسك. في الزمن الرديء، شرُّ البليّة ما يُضحك.
يوم الجمعة كان الرئيس سعد الحريري واضحاً في كلامه. كأنّه كان يقول على “البيروتي”: “موو أَني، هودي هنّي”. دَعَم كلامه بمقولة أنّ المستقبل لم يكن في وزارة الطاقة منذ سنواتٍ وسنوات. كان يصوّب بالمباشر على رئيس التيّار الوطني الحر جبران باسيل. عندما تحدّث عن الرئيسَيْن وعن أنّ واحداً منهما كان رئيس الظلّ، كان يوحي في كلامه ما معناه “ما خلّونا”.
في المقابل، الوزير السابق باسيل يتّهم الآخرين بالفساد. هو يصوّب منذ أشهر وباستمرار على تيّار المستقبل. باسيل لم يكن واضحاً في أيّ وقتٍ من الأوقات بأيّ اتّهام يتعلّق بالفساد يوجّهه إلى حركة أمل أو حزب الله. قال قبل أيّام: “لستُ شريكا في الفساد مع أحد”. دَفَع عنه هذه التهمة للمرّة المئة ربّما. إذا سَأَلْتَه: “لماذا إذاً سكتُّم عن الفساد”، يجيب بما معناه “أنّنا كنّا نتجنّب فتنةً طائفيّة”! كأنّه يقول أنّ الفاسدين مسلِمون! في مرّات كثيرة أوحى بأنّ الآخرين كبّلوا يد التيّار عندما حاول مكافحة الفساد. قال بالحرف الواحد “جرّبنا بَسْ ما خلّونا”.
القوّات اللبنانيّة التي صوّبَت نواضيرها إلى التيّار الوطني الحر فقط، لا تتردّد في اتّهامها الوزير باسيل بالفساد تلميحاً أو تصريحاً. لكنّ القوّات اللبنانيّة لم تتكلّم يوماً عن احتمال وجود فسادٍ عند تيّار المستقبل أو الحزب التقدّمي الاشتراكي أو حركة أمل. والواضح في كلامها أيضاً أنّها تتحدّث “كمان عن هوديك”. وعندما تسأل القوّات لماذا لم تفلحوا في وقف الفساد، علماً أنّهم صوّبوا باتّجاهٍ واحدٍ، تسمعهم يقولون لكَ: “ما خلّونا”.
حزب الله يتحدّث عن الفساد والفاسدين كأنّه يتحدّث عن “هوديك” أي “مِش نحنا”. النائب حسن فضل الله الذي قاد معركة حزب الله ضد الفساد قال بعد بدء الحراك: “هناك هدرُ أموالٍ بآلاف مليارات الليرات، وحتى الآن لا نعرف من المسؤول عن التلاعب بهذه المبالغ بذريعة أنّ المسؤولين في السابق كانوا خاضعين للحصانة”. هو، وعلى عكس القوّات والتيّار والمستقبل، لا يسمّي فاسداً واحداً. لا أدري كيف لحزبٍ يُرعب إسرائيل أن يخشى التسمية. فضل الله قال قبل أيامٍ قليلة: ” تبلّغتُ من الجهات القضائّية أنه لا يمكن محاسبة أي وزير أمام القضاء المختص”. هو أيضاً يقول بشكلٍ غير مباشر: “ما خلّونا”.
بعد أسابيع قليلة من بدء الحراك أطلق الرئيس نبيه برّي ما أسماه في حينه: “ثورة تشريعية في محاربة الفساد”. لم يُشِرْ الرئيس برّي في أيّ يومٍ من الأيّام إلى أحدٍ من حركة أمل قد يكون متوّرطاً بالفساد. “على فوقا”، حركة أمل هي الوحيدة التي لا يتّهمها أحدٌ بالفساد. لم يجرؤ أحدٌ من السياسيّين أن يوجّه إلى أيٍ من وزراء الحركة تهمةً بأنّه فاسد. هل يكون هذا هو السبب الذي جعل الرئيس برّي يقول أمس: “شبابنا يهاجر لأنّه لا يجد فرص عمل أمام الحيتان والفساد”؟
حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي اتّهمه الحراك بالفساد وحماية الفاسدين قال بعد بدء الحراك في الشارع أنه “يتعرّض لحملة تشهير غير مُبرّرة تستهدف تحميله مسؤوليّة الفساد القائم في الدولة، فيما هو يصل الليل بالنهار لتثبيت سعر الليرة “. هو أيضاً يصرخ: “موو أَني”.
عن الحزب التقدّمي الاشتراكي نشر مرّة الوزير السابق نهاد المشنوق مقالاً لم يكتبه هو لكنّه قدّم للمقال كاتباً: “هذا هو وليد جنبلاط أحد أكبر وأعتى رموز الفساد في تاريخ لبنان”. لكنّ الزعيم الاشتراكي قال بعد شهرين من انطلاق التظاهرات: “منظومة الفساد الحالية توسّعت، كمّاً ونوعاً، قياساً إلى الماضي، وأصبحنا نترحّم على طبقة الفاسدين القديمة التي كانت أكثر رقيّاً وأقلّ نهماً”. عندما يقول جنبلاط كلاماً كهذا كأنّه يقول :”موو أَني … هَوْديك”.
عظيم. لننطلِق من فكرةٍ هي أنّ أيّاً من الأحزاب اللبنانيّة ليس فاسداً. كلّهم يُشبهون “مار شربل” في حياته الزهديّة والنسكيّة. وفوق ذلك، فإنّي لا أرغب في أن أكون إتّهاميّاً أو مفترياً. لكن، من يحدّد الفاسد والفاسدين إذاً؟ من غيرُ القضاء قادرٌ على فعل ذلك؟ لكن أين هو القضاء؟ لماذا هو ساكتٌ ونائمٌ؟ وإذا تكلّم القضاء أو تحرّك، تراه يذهب باتّجاهٍ واحدٍ فقط هو تيّار المستقبل. طبعاً، أنا لا أتأسّف على أحدٍ إذا كان فعلاً مرتكباً، لكن أين الفاسدون الآخرون؟ هل من الطبيعي أنّ أحداً لم يُدَن بعد؟ “معقول” أنّنا لم نجد بعد فاسداً واحداً من الدرجة الخامسة مثلاً وراء القضبان؟ إذا أشَرْتَ إلى القضاء، يقولون لكَ أنّك تمسّ بهيبته. عظيم، لكن ماذا يفعل القضاء حتّى لا تُمسّ هيبتُه؟ ألم يصبح صمتُه مريباً؟! هل يتفضّل القضاء ويحدّد لنا من هي هذه الـ “نونا” على وزن “ما خلّونا”؟ من هُم هؤلاء الأقوياء في الجمهوريّة اللبنانيّة الذين منعوا قدّيسي السياسة في لبنان من محاربتهم للفساد؟ أكيد “موو أَني”.
سمير قسطنطين
أحدث التعليقات