في بداية الصوم الكبير أعود في رحلة تأمّل إلى الجذور، إلى المنطلقات الأولى، إلى مسيحيّةٍ بحَثَت عن فرصٍ للخدمة لا السلطة، إلى مسيحيّةٍ كانت مُضطَهَدَة بسبب نقائها، لا مُضطَهِدة لبعضها البعض بسبب الرغبة في السلطة.
عقائد المسيحيّة موجودة، لكن أسلوب العيش في المسيحيّة لهو أهم بكثير من عقائدها. في المسيحيّة أيضاً شعائر وطقوس، لكن روح المسيحيّة وروحانيّتها تفوقان كلّ هذه الممارسات أهميّةً وبأضعاف المرّات. بالنسبة لي، فإنّ مسيحيّتي هي ثلاثة أمور أو قُل ثلاث حالاتٍ مترابطة: المحبّة، والغفران، وصنع السلام. هي ليست عقائد على الرغم من أهميّتها، ولا فلسفة وإن كان البعض يريد أن يراها هكذا، ولا علماً في اللاهوت وإن كانت ملأى بمفاهيمه. هي ببساطة: محبّة وغفران وصنع سلام، لا أكثر ولا أقل.
هي المحبّة لأنّ الله أحبّنا بلا شروط ولا قيود ولا “تمنين” ولا ندم أيضاً. وعندما أنتَ تحب، يسهُل عليكَ أن تغفرَ إساءات الآخرين. هل يصعب على الأم أن تسامح ولدها على إساءته لها؟ طبعاً لا. فكم بالحري عندما يتعلّق الأمر بغفران الله لنا؟! عندما نمتلئ من المحبّة يفيض الغفران، ويحصل ذلك من دون تعبٍ كبير. وعندما تغفر، فأنتَ تبني المدماك الأول في صنع السلام مع خصمكَ.
لماذا هذا الصخب في العالم اليوم؟ ولماذا هذا الضجيج خصوصاً في هذه المنطقة من العالم؟ القصّة هي هي. التاريخ يعيد نفسه لمن لا يتعلّم الدرس. يمكنكَ أن توقف إطلاق النار مع عدوّكَ من دون محبّةٍ أو غفران، لكنّكَ لا تستطيع أن تبني السلام معه من دونهما.
في هذا البلد، نحنُ بحاجةٍ إلى سلام. في دواخلنا نحن بحاجةٍ إلى سلام. المشروع يبدأ بالمحبّة، أو على الأقل، بالرغبة في أن تحاول أن تحب. إذا أردتَ أن تبدأ مسيرةً مع شريكٍ في البيت أو العمل أو الوطن، أنتَ بحاجةٍ أن تحب. ليس الأمرُ سهلاً. في المسيحيّة معيار المحبّة هو: “أحبّوا أعداءكم”. المسألة صعبة والسقف عالٍ جدّاً، وهو يصل إلى حدِّ “باركوا لاعنيكم”. لكنّها أي المحبّة شرطٌ واحدٌ وحيد للغفران، ومن بعدها تبدأ مرحلة صنع السلام.
يؤلِمُني أن أرى مسيحيّين كثيرين غير قادرين على حبّ الأقربين، فكم بالحري على حبّ الأبعدين؟ يوجعني هذا الكمّ الهائل من الحقد على صفحات التواصل الاجتماعي. هذا لا يشبه مسيحيّتنا بشيء. قد يسأل أحدُنا: “وهل هذا يعني أنّنا نقبل بما يدور حولنا ونرضخ؟ أو أن لا نقول الحقيقة؟ أو أن نمتنع عن التعبير عن رأينا”؟ طبعاً لا. كلّا وألف كلّا. عندما تعرف الحق، فالحقّ يحرّرك. أَلَم يقل يسوع هذا الكلام؟ هو من قال: “تعرفون الحقّ والحقُّ يحرّركم”. عبِّر عن رأيك، أعلِنْه من فوق السطوح، لكن قُلْه بمحبّةٍ وباحترام. يخلط الناس كثيراً بين الخنوع وقول الحقيقة بمحبّة، ويخلطون بين ضرورة التعبير عن الحقيقة والقساوة. المعادلة بسيطة وهي: قُلْ ما شئت لكن بمحبّةٍ واحترامٍ للرأي الآخر.
لا تخف من أمرئ يحب. لا تخشَ أن يراه الناس ضعيفاً. هو قويٌّ جدّاً. هو يعرف ذلك وخصومُه يدركون ذلك جيّداً. لا تخف على إنسانٍ حاضر للغفران. لا يستطيع الضعيف أن يغفر. هو قويٌّ جداً ذاك من يقدر على فعل ذلك. و”ما تِعْتَل” همَّ إنسانٍ يريد فعلاً أن يبني سلاماً. لو لم يكن قويّاً جدّاً في داخله ومُدركاً معنى الحياة، لما كان قادراً على المبادرة.
هي بداية الرحلة غداً. مشوارٌ جديدٌ نخطوه في صحراء هذا العالم نحو الجُمُعةِ العظيمة ومن بعدِها القيامة. لا أرغب في أيِّ مسيحيّةٍ نروّج لها من حيث ندري أو لا ندري لا تسلك درب المحبّةِ والصفح وصنع السلام. كلُّ دربٍ تأخذُنا إلى مقابلةِ الحقد بحقدٍ، والإساءة بإساءة، والاستفزازِ باستفزازٍ، هذه دربٌ لا تشبِهُنا. وكلّ طريقٍ نسلكُه نبادر فيه نحن إلى بخِّ الكراهية، وبناء الحيطان بين الناس، والاستفزاز، وتخريب السلام، فهذه أيضاً دربٌ لا تشبِهُنا. مسيحيّتُنا هي محبّةٌ وصفحٌ يصل إلى الغفران وصنعُ سلام. إذا فقدناها، يصعب عليّ ساعتها أن أفتخر بمسيحيّتي. هي كلّ القوّة، تلك القوّة الحقيقيّة.
سمير قسطنطين
أحدث التعليقات