خلاصُ لبنان يأتي من تشكيلاتٍ قضائيّة من دون وصاية ولا زبائنيّة … هل يكُمل حُسني البرزان صديق غوّار الطوشي مقالتَه؟
منذ أن بدأ الحراك في 17 تشرين الأول، والناس تصبّ جام غضبها على السياسيّين الذين تناوبوا على حكم البلاد منذ القِدَم، وبنوعٍ خاص على الذين حكموا لبنان منذ العام 1990. لم يتطرّق المتظاهرون إلى القضاء بالشراسة ذاتها التي تطرّقوا فيها إلى أداء السياسيّين، وإن كان الجميع يطالب بقضاءٍ نزيه. مثقّفو الحراك بنوعٍ خاص أنحوا باللائمة وباستمرار على القضاء. لكنّ القضاء، وكحالةٍ عامّة، لا جُرأةَ له لكي يكون نزيهاً ذلك لأنّ السياسيّين هُم الذين كانوا، وما زالوا، يقترحون الأسماء لملء الشواغر في المراكز القضائيّة. فالتشكيلات القضائية بحسب القانون الحالي تتطلّب صدور مرسومٍ وتوقيع وزراء العدل والدفاع والماليّة عليه، بالإضافة إلى توقيعَي رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية. تدخُّلُ السياسيّين في القضاء يبدأ من هنا، وهو لن ينتهي فعليّاً قبل أن يُتركَ أمرُ التعيينات والمناقلات لمجلس القضاء الأعلى وبقرارٍ منفرد.
ماذا حدث في الماضي القريب؟
على امتداد عقودٍ من الزمن تنازل مجلس القضاء الأعلى، المفترض به أن يكون المسؤول الأوّل والوحيد عن التشكيلات، تنازل عن دوره في أن تكونَ له الكلمة الوحيدة في تحديد أسماء القضاة الذين يشغلون المناصب القضائيّة المختلفة، وشكّل ذلك الطامة الكبرى في لبنان. المشهد كان على الشكل التالي: قضاةٌ يملأون قاعات المحاكم، يجلسون على القوس، إنّما القضاء كحالةٍ كان يملأ أروقة قصور السياسيّين طلباً لدعم من هنا وواسطةٍ من هناك. في السنوات الثلاثين الأخيرة رضيَ مجلس القضاء الأعلى بكثيرٍ من تدخّلات السياسيّين. وكانت النتيجة المؤلمة أنّنا عايشنا في مرّاتٍ كثيرة قضاءً هزيلاً متردّداً ومؤجِّلاً لإصدار الأحكام حتى لا أقول أكثر من ذلك. نسيَ اللبنانيّون ولفترةٍ طويلة أنّ القضاء هو سلطة مستقلّة، والسبب هو أنّ القضاء تصرّف على أنّه تابعٌ وللأسف. في الحدِّ الأدنى فقَدْ تصرّف القضاء بطريقة توحي بأنّه لم يكن مستقلّاً تماماً. مخجل.
لكنّ اليوم الوضع مختلفٌ، والزمن قد تغيّر، وذلك لأسبابٍ ثلاثةٍ على الأقل. أوّلاً، على رأس مجلس القضاء الأعلى قاضٍ ذو تاريخ من نظافة الكفّ والنزاهة والاستقامة والعدل هو الرئيس سهيل عبّود. يبدو أنّه فوق ألاعيب الأقوياء. عندما عيّنه مجلس الوزراء رئيساً كان المجلس منقسِماً. لم يفعل ذلك بملءِ إرادةٍ موحّدَة. حصل خلافٌ بين أعضاء الفريق الواحد حتّى. حَسَمَ رئيس الجمهوريّة الخلاف لصالح تعيين عبّود. ثانياً، الطبقة السياسيّة في لبنان باتت الآن أضعف بكثير ممّا كانت عليه قبل عقود. لم تعُد بالقدرة ذاتها على فرض الأمور. وثالثاً، ضغط الناس على القضاء لكي يكون جريئاً ونزيهاً بات أكبر بكثير من قبل. لا يمكن لا للسياسيّين ولا للقضاء تجاهله.
في تسعينيّات القرن الماضي هزّت إيطاليا حملةٌ أُطلِق عليها إسم “الأيادي النظيفة”. بدأ التحقيق مع عضوٍ في الحزب الاشتراكي. ثمّ ما لبث التحقيق أن توسّعَ وشمل أكثر من خمسة آلاف شخص. في قفص الاتّهام وقف نصف أعضاء البرلمان الإيطالي وأكثر من أربعماية مجلس بلدي. السؤال الكبير الذي شغل القضاء كان: “كيف تخسر خزينة الدولة الإيطاليّة أربعة مليارات دولار سنوياً بسبب الرشى”؟ القاضيان جيوفاني فالكوني وباولو بورسيلينو توسّعا في التحقيق ليجدا نفسيهما في مواجهةٍ عنيفة مع المافيا الإيطاليّة، وفي مواجهةِ خطرٍ حقيقيٍّ على حياتهما. المحزن هو أنّ القاضيَيْن المذكورَين دفعا حياتهما لاحقاً ثمناً لإنقاذ البلاد، إذ قضت عليهما المافيا. فالكوني قضى على يد المافيا في شهر أيّار من العام 1992، وتبعَه بورسيلينو بعد شهرين. لكنّ هذيَن القاضيَين نقلا إيطاليا من عهد الجمهوريّة الأولى إلى عهد الجمهوريّة الثانية.
أبناء جيلي يتذكّرون حُسني البُرَزان الصديق اللدود لغوّار الطوشي في رائعة “صح النوم”. كان حُسني، واسمه الحقيقي نهاد قلعي، يبدأ محاولاته لكتابة مقالته التي لم تكتمل، وكذلك يبدأ عمليّة تدريس المساجين، بعبارة: “إذا أردنا ان نعرف ماذا في إيطاليا… علينا أن نعرف ماذا في البرازيل”. وما أن يبتدئ حسني البُرزان بالكتابة حتى تأتيه مفاجأة من صنع مقالب غوّار فتُرحِّلَ أفكاره لمشهدٍ آخر.
اليوم المشهد مختلف. فإذا أردنا أن نعرف ماذا في لبنان بعد عشر سنين، علينا أن نعرف ماذا في إيطاليا قبل ثلاثة عقود. عساها تمرّ ساعتئذٍ من دون دم. التشكيلات القضائيّة المرتقبة، والتي تأخّر صدورها على ما يبدو، ستُعطي عنواناً كبيراً للمرحلة المقبلة على صعيد المحاسبة. فإذا، أكمل مجلس القضاء الأعلى دراسته لملفّات القضاة كما هو فاعلٌ الآن، وأجرى التشكيلات، ووضعها في وجه كلّ السلطة السياسيّة، ولم يتنازل عن إسمٍ واحدٍ لا عند المسلمين ولا عند المسيحيّين، وإذا وضع رئيس مجلس القضاء الأعلى استقالتَه على المحكّ، كعلامة رفضٍ لتدخّلات السياسيّين، أعتقد ساعتئذٍ أن تغييراً ما يكون قد بدأ يتبلور على صعيد ممارسة السلطة في لبنان. ليس ذلك فحسب، بل أنّ القضاءَ نفسَه، وفي هذه المرحلة بالذات، مدعوٌّ إلى أن يحمي نفسه من الزبائنيّة التي لا دخل للسياسيّين بها، فلا يصرّ أعضاء المجلس الأعلى على تعيين القضاة القريبين منهم بحجّة سهولة التعامل معهم، بل يعتمدون معاير التراتبيّة ونظافة الكف والملاءمة عند الانتقاء. وإذا رضخ المجلس لا سمح الله لوصاية السياسيّين، ولا أراه فاعلاً ذلك، أو إذا غرق في الزبائنيّة، وهذا خطرٌ ليس بالقليل، فعلى الدنيا السلام. عندها لن يكون لدينا لا فالكوني ولا بورسيلينو، وسيبقى قدرُ حُسني البُرزان محاولة إكمال مقالةٍ لن تكتمل.
سمير قسطنطين
أحدث التعليقات