كورونا سيّد الموقف. لا إسم يتقدّم على إسمه، ولا صوت يعلو فوق صوتِ حضوره. تخطّى هزليّة اليوروبوند أهمّيةً. لا أدري إن كانَ تعاطينا كدولة وكمؤسّسات وكأفراد هو الأنسب مع الكورونا. أشعر أنّنا نبالغ في ردود فعلنا، وإذا أستمرّينا على هذا النحو، فنحن نتّجه إلى تدميرٍ جماعي لاقتصادنا المنهار أصلاً، وسنصل إلى وقتٍ لا يقدر أيٌّ منّا فيه على تسديد فاتورة أو دفع قسط سيّارة كان اشتراها قبل الأزمة.
كلامي لا يعني أن نستخفّ بموضوع كورونا. إطلاقاً لا. لكنّنا إذا أكمَلْنا على هذا النحو، وبقيَت مدارسُنا مقفَلة (ولا بأس بذلك لفترةٍ وجيزة)، وامتَنَعنا عن الذهاب إلى مطعمٍ، وتردّدنا في التسوّق في مجمّعٍ تجاري كبير، وفكّرنا مرّتين قبل أن نذهب ونشتري قطعة ثياب من متجرٍ، وتوقّفنا عن زيارة الأقارب والأصدقاء فلم نأخذ بيدنا هديّة من هنا أو قالب حلوى من هناك، وقلّلنا من شراء الخضار والفواكه لأنّنا “ما منعْرِف مين حاطِطْ إيدو علَيْهُن”، فإنّنا وبوقتٍ قياسيٍّ سننهار جميعاً وسنتلّفتُ حولنا لنجد البيوت فارغة إلّا من القلق وقناني الديتول، والمتاجر “عمْ بِتْصَوْفِر”، والأهل غير قادرين على تسديد قسط مدرسة، والمدارس غير قادرة على دفع المعاشات وهي التي توظّف خمسين الفاً في القطاع الخاص فقط. سنجد الناس لا يمكنها دفع قرشٍ واحدٍ من ضريبة دخلِها أو فواتير الكهرباء والتلفون وغيرها إلى الدولة إلّا إذا كانت مرغمة. وستُقفِل المحلّات الصغيرة، وهي عماد الاقتصاد المحلّي، أبوابها في وقتٍ قريب. هذا ما سيحدث إذا استمرّت حالة الذعر على هذا المنوال.
عتَبي الكبير هو على الدولة. الدولة “صايرة فِزَّيْعة”. بدل أن تكون في وضع التوعية المسؤولة، الدولة تهرب من نفسها إلينا. “بُهْرُب منّك بِركُضْ لَيْك”. أين أفلام التوعية المتكرّرة وعلى كلّ الشاشات؟ حتّى الآن لم يصلْني أيُّ إيميل من وزارة الصحّة مثلاً فيه كلامٌ توعوي حول الكورونا. الدولة عندها كلّ عناوينا البريديّة. وزارة الماليّة ترسل لنا العشرات منها كلّ سنة!
يوم أمس أتيتُ على طائرة قادمةٍ من دبي. في مطار بيروت، رجلٌ وأمرأة يفحصان حرارة جسمك من خلال آلةٍ في يدهم يوجّهون أشعّتها نحو الجبين. هذا كلّ ما يفعلونه. “كتِّر خيْرُنْ … ما إلِي عليهُنْ شي”. لكن ماذا لو كانت الحرارة مرتفعة عند أحدهم وأراد أن “يحتال” على الدولة، فأخذ قبل ساعتين من هبوط الطائرة في مطار بيروت حبّتَي بانادول مثلاً لإسقاط الحرارة؟ أليس هذا ممكِناً؟ هكذا شخص سينجو في فحصٍ بسيطٍ كهذا الذي يجري عندنا.
الدّولة مسؤولة بدرجةٍ أولى وثانية وثالثة عن انتشار الكورونا. هي تجاهَلَت معايير الوقاية والسّلامة على كل المعابر الجَّويّة والبريّة والبحريّة خصوصاً في البداية. الذين لم يأتوا في الطائرة أتوا عن طريق المصنع. الدولة ترمي علينا هذا الحمل الثقيل. “هيدي شَغْلِتْها”. نحن ننتبه لمعايير النظافة والتطهير والتعقيم أكثر من ذي قبل بكثير. لكنّنا لا نستطيع أن نفحص الناس. قرارات التعاطي مع كورونا ليست سياسيّة ولا طائفيّة ولا مذهبيّة. في العراق ألغوا صلاة الجمعة في كربلاء بسبب الكورونا. في إيران ألغوا صلاة الجمعة في جميع عواصم المحافظات. لم يعترض أحد. فقط في لبنان، هذه القرارات تتسيَّس وتتمَذْهَب. عندما أصدر مجلس الأساقفة قبل أيّامٍ قليلة قراراً حول المناولةِ باليد، قامت القيامة ولم تقعد. صرنا جميعاً لاهوتيّين وصانعي العقيدة. ردود الفعل إمّا سياسيّة وإمّا انفعاليّة. في كلّ الحالات، قُصرُ النظر موجودٌ بوفرة.
لكن ماذا عنّا نحن المواطنين العاديّين؟ نحن نهرب من بعضنا. نتجنّب جيراننا في البناية إذا عطس واحدٌ منهم “بالغلط”. إهانات من فجّ وغميق نوجّهها لبعضنا من دون أن ندري، وخصوصاً للضعفاء منّا إذا “كان مرشِّح”.
أعتقد أنّنا نتدرّج من الأقل خطراً علينا إلى الأكثر خطراً. أستطيع أن أفهم أن أكون “معنيّاً” بأمرٍ ما أي Concerned. في اللغة العربيّة “عناه الأمرُ أهمَّه وشغَله”. من هنا نكتب في بعض المرات “إلى من يعنيه الأمرُ”. هل يجب أن يعنينا الكورونا؟ طبعاً. من البديهي أن نكون معنيّين بما يجري حولنا وأن نفكّر فيه وأن نسأل أنفسنا “ماذا يجب أن نفعل”.
أن أكون معنيّاً قد يتطوّر في حالةٍ ما إلى وضعِ “أن أكون مهتمّاً” أي Caring. الاهتمام هو اتّجاهٌ نفسيٌّ إلى تركيز الانتباه حول موضوع معيّن. مصدر العبارة “اهتمَّ”، أي أن يهتمَّ اهتماماً بشيء ما أو أمر ما. وأيضا يُستخدم مصطلح “إثارة الاهتمام”: إثارة المرء بفكرةٍ ما، بحيث يرغب في التعرُّف على دقائقها، وبناء صورة معرفيّة بشأنها. الكورونا لا يثير حشريّتنا فقط بل اهتمامنا أيضاً. ولعلّ أهمّ ما يجب أن يثير اهتمامنا هو كيفيّة تجنّبه وتحديداً عبر النظافة والوقاية والانتباه إلى استعمال اليدين وبالتالي اللمس. إلى الآن الأمر مفهومٌ ويُشجَّع عليه.
من نقطة الاهتمام هذا قد ينتقل المرء إلى مستوى “الهمّ”. هنا تبدأ رحلة الخطورة. عندما تهتم، أنتَ تسعى إلى إيجاد الحلول. عندما “تنْهَمّ”، أنتَ تفكّر بالمصيبة التي ستصيبك لا سمح الله. الهمُّ في علم النفس هو التفكير السلبيُّ المستمرُّ بشأن التهديدات المحتملة، وغالباً ما يكون على هيئة أسئلة داخليّة مثل “ماذا لو حصل كذا”؟ أين تكمن الخطورة في ذلك؟ لا تكمن الخطورة في السؤال بحدّ ذاته لمرّة واحدة أو مرّتين، بل أنّ تعاقُبَ هذا النوع من التفكير قد يسبّب القلق، الذي يغذّي التوتّر ومن ثمّ الكآبة.
هذا “القلق” يشكّل المرحلة الرابعة صعوداً بعد مراحل ثلاث هي: أن تكون معنيّاً، أن تكون مهتمّاً، وأن تكون مهموماً. القلق يمثّل حالةً نفسيّة وفيزيولوجيّة تتركّب من تضافر عناصر إدراكيّة وجسديّة وسلوكيّة. هذه الحالات تخلق شعوراً غير سارٍّ يرتبط عادة بعدم الارتياح والخوف أو التردّد. القلق هو الشعور غير السّار المصحوب بالخوف والجَزَع من أحداثٍ متوقّعة. في هذه الأيّام، يتمثّل القلق في خوفنا من عدوى الكورونا، أو من الموت من هذا الفيروس، الأمر الذي بدوره يأخذنا صعوداً إلى المرحلة الخامسة وهي الهلع. أشعر أنّ قسماً كبيراً من اللبنانيّين بات الآن في مرحلة القلق المتقدّم في موضوع كورونا. مصيبة القلق أنّه لا يرفع عنّا خطر الغد لكنّه يفرغ اليوم من قوّته.
لكنّ أخطر ما يجري عندنا هو وصولنا إلى مرحلة الهلع. نوبة الهَلَع أو الـ Panic Attack هي فترة وجيزة من الضيق الشديد، والقلق، أو الخوف الذي يبدأ فجأة ويرافقه أعراض جسديّة و/أو عاطفيّة. ينطوي اضطرابُ الهلع panic disorder على هجمات ذعر عفويَّة تحدث بشكلٍ متكرِّر، وقلق حولَ الهجمات في المستقبل، وتغيُّرات في السُّلُوك لتجنُّب المواقف التي ترتبط بالهجمة. نحن الآن في الهلع أو في الذعر. لا تكفي شعارات “لا داعي للهلع لطمأنِتنا”.
لكنّنا ننسى أنّنا شعبٌ عشنا كلّ أنواع الحروب، وخضنا غمار التهجير والمجازر، ومرَرْنا بظروفٍ اقتصاديّة موجِعة، وعانَيْنا ما عانيناه من الاحتلالات على أنواعها. نحن شعبٌ مات ثلثُه بالجوع قبل ماية عامٍ فقط، ومع ذلك دخلنا مع الكورونا مرحلة الهلع.
فقط للتذكير فإنّ في لبنان 28 حالة فقط أي 0،0000056 في المئة فقط من السكّان. نسبةٌ قليلة جدّاً. طبعاً هذا لا يعني أنّ الوقاية ليست أساسيّة، ولا يعني أبداً، لا من قريب ولا من بعيد، أنّ خطر الانتشار غير وارد، ولا يعني أبداً أنّه لا بأس في أن نكون غير معنيّين، لكن هذا يعني أيضاً “إنّو بكّير كتير ع الذعر”.
لا تبرّر لنفسك الهلع بعبارات من مثل “نحنا هيك لأنّو خيفانين من بعدين” أو بعبارات مثل “لو عنّا دولة ما كنّا هيك”. الهلع خطير وخطورته أكبر بكثير من خطر الكورونا. هناك فرقٌ كبير بين أن تكون معنيّاً بأمرٍ ما Concerned، أو مهتمّاً بالأمر Caring، أو مهموماً بسببه Solicitous، أو قلِقاً Anxious، أو هلِعاً Panicked. وقانا الله شر الكورونا وشر الهلع وأخواته في آنٍ معاً.
سمير قسطنطين
أحدث التعليقات