أفضلُ فحصِ دمٍ للعلاقات الزوجيّة والأبويّة في تاريخِنا كلّه يتمّ في بيوتنا منذ أسبوعين. وفحصُ الدّم هذا هو ككلّ فحوصات الدم الصحّية. فهو قد ينقل إلينا أخباراً مُطَمئِنة عن صحّتنا العائليّة، تماماً كما قد يفعل فحص الدّم في موضوع سلامتنا الصحيّة، وهو قد ينقل إلينا أيضاً معلوماتٍ غير مُطمئِنَة عن صحّتنا العائليّة، مثلما ينقل إلينا فحص الدم العادي في بعض المرّات معلوماتٍ مُقلِقةً عن مخزون السكّري في الدم، أو ارتفاعٍ غير محمود في الكريات البيض، أو ازديادٍ حادٍّ في الـكوليسترول مثلاً.
في الأسبوعين الأخيرين كان كلامٌ كثيفٌ على وسائل التواصل الاجتماعي عن أنّنا في هذه الأزمة عُدنا إلى عائلاتنا، تعرّفنا من جديدٍ على أولادنا، وتفاعَلْنا كأزواجٍ مع بعضنا البعض بطريقةٍ لم نعهدْها منذ أمدٍ بعيد. قيل هذا الكلام في سياقٍ إيجابيٍّ. وكان تركيزٌ على أنّ فكرة “خلّيك بالبيت” ألزَمَتنا جميعاً تعزيزَ العلاقات الزوجيّة والأبويّة التي غالباً ما تُنهِكُها الانشغالاتُ اليوميّة التي اختَفَتْ الآن. طبعاً، كُلُّ عاقلٍ ستعني له الحياة العائليّةُ الكثير الكثير. لكن هل فعلاً، حسَّنَتْ هذه “الزربة بالبيت” علاقات الأزواج ببعضهم البعض؟ وهل فعلاً نَمَّت هذه الخبرة البيتيّة علاقاتنا الأبويّة مع أولادنا؟ أم أنّ هذه العطلة القسريّة المنزليّة كَشفَتْ المستور فقط لكنّها لم تُداوِه؟
طبعاً، الخبرات عند الناس قد لا تكون نُسخةً طِبق الأصل عن بعضها. لا أعتقد أنّها كذلك. أعتقد بالتالي أنّ نوعيّة تطوّر العلاقات داخل العائلة تنقسم إلى ثلاثة اتّجاهات.
الاتّجاه الأوّل يختبره أولئك الأشخاص الذين يشعرون بأنّ علاقاتهم الزوجيّة والأبويّة كانت قبل الكورونا جيّدة إلى حدٍّ بعيد. عدد هؤلاء ليس قليلاً على ما أعتقد على الرغم من كلّ النكات التي يطلقها اللبنانيّون في هذا الاتّجاه. هؤلاء الأشخاص، عملَت العطلة القسريّة لصالح علاقاتهم الزوجيّة والأبويّة. هذه الإقامة “الجبريّة” في البيت، أعطَتْ الزوج وقتاً أطول للحديث مع زوجته وللإصغاء إليها حتّى ولو كانت معظم الأحاديث تتمحور حول الكورونا. وقد أعْطَت هذه التجربة الزوجةَ، التي هي أصلاً في علاقة حبٍّ عميق مع زوجها، أعطتها فرصةً أفضل لكي تعبّر له عن اهتمامها به، فالوقت الآن بات لصالح هذه العلاقة إذ هو متوفّرٌ بوفرة. قبلاً، كانت الزوجةُ تملك هذه المشاعر الإيجابيّة تجاه زوجها، لكنّها في أوقاتٍ كثيرة كانت تؤخذ بالانشغالات اليوميّة المُضنيَة والمستهلِكة للوقت، فتعجزَ عن إظهار كلّ ما يجول في قلبها وعقلها من مشاعر وأفكار إيجابيّة تجاه الشريك. الأمر نفسه ينطبق على العلاقة مع الأولاد في الإطار نفسه. فالأهل الذين كانت تربطهم بأولادهم علاقة جيّدة إيجابيّة قبل أزمة الكورونا، لا شك أنّهم عزّزوا هذه الروابط في الأسبوعَين الأخيرَين، فلعبوا مع أولادهم الـ PS4، وتبادلوا الحزازير الحسابيّة، وردّوا بعنايةٍ وتأنٍّ على كلّ الأسئلة التي أتت من أولادهم حول الكورونا وغيرها.
الإتّجاه الثاني يختبره أولئك الذين يشعرون أنّ علاقاتهم الزوجيّة والأبويّة كانت قبل الأزمة الصحيّة المستجدّة سيّئة إلى حدٍّ بعيد. هؤلاء الذين كانوا يهربون من المشاكل اليوميّة والمشاحنات إلى أماكن عملهم طوال النهار، وإلى زياراتٍ غير ضروريّة للأهل والأصدقاء قبيل ساعات المساء. هؤلاء كانوا يحرقون الوقت أمام التلفزيون يشاهدون نشرة الأخبار في المساء، ويتابعون في الليل مُسَلْسلاً هُم أصلاً لم يكونوا من هُواته، إنّما كانوا يفعلون كلّ ذلك لتفادي الصدامات و”الخناقات”. الودُّ في العلاقةِ كان مفقوداً أصلاً. وفي الليل، كان أحد الزوجين يتجنّب النوم في نفس الوقت الذي سينام فيه شريكه بحجّة متابعة فيلمٍ أجنبيٍّ من هنا أو دراما عربيّة من هناك. وكان الزوجةُ تفرح بأنّها ستغفو قبل أن ينام زوجها، وكذلك كان الزوج مسروراً أنّه سينام قبل أن تخلد الزوجة للنوم. هؤلاء فاجأهم الكورونا. أخذهُم على حين غرّة. لم يكونوا مستعدّين. فجأة ومن دون مقدّمات حلّ الكورونا ضيفاً ثقيلاً في العائلات. أنتَ الآن مع زوجتِك أربعاً وعشرين ساعةً في اليوم، وهي معك طوال الوقت. لا عمل تذهب إليه. ولا زيارات تستطيع القيام بها لحرق الوقت. أنتَ في مواجهةِ حقيقةٍ هرَبْتَ منها سنوات طويلة كُرمى لعيون أولادِكَ. وأنتِ تجنَّبتِ الانفصال عن زوجكِ حتّى لا يعاني الأولادُ في يومٍ من الأيّام ما لا تسهل عليهم مواجهته. لكنّ الأمرَ مختلفٌ منذ أسبوعين. لا مواضيع للنقاش، فأنتما لستما متعوّدَين على هكذا نقاش، ولا “ضهرات” أو سهرات تستر الخلاف. في هكذا حالة، هل تبقى هذه الإقامة القسريّة مفيدةً للعلاقة؟ أعتقد، وأقول هذا بأسفٍ، أنّ الأزمةَ الحاليّة سينتج عنها إنفصالاتٌ زوجيّة عدّة، وتحديداً في الحالات التي كان فيها الثنائي الزوجي من عداد هذه الفئة. هذه “القعدِة بالبيت” لن تُفيد هذه الفئة من الأزواج وهذا الصنف من العلاقات الزوجيّة. وأعتقد أنّ الأمرَ نفسه ينسحب على علاقتنا بأولادنا. للذين يعيشون حالاتٍ نفسيّة متوتّرة بسبب علاقةٍ زوجيّة أو أبويّة، وللذين لم يتعوّدوا من قَبِل أن يتحدّثوا مع بعضهم حول هذه التحدّيات، قد تتحوّل هذه العطلة القسريّة إذا طالَتْ، ويبدو أنّها ستطول، إلى كابوسٍ علائقي قد ينتُج عنه ما لا تُحمد عُقباه.
الاتّجاه الثالث يختبره أولئك الأشخاص الذين يشعرون بأنّ علاقاتهم الزوجيّة والأبويّة كانت ما بين بين، فلا هي كانت دافئة إيجابيّة تفاعليّة ودودة، ولا هي كانت باردة سلبيّة متفجّرة قاسية. العلاقة كانت قبل الكورونا فاترةً رتيبةً عاديّةً لا مفاجآت فيها، لا سارّة ولا غير سارّة. هؤلاء قد تأخذُهم العطلة القسريّة في واحدٍ من اتّجاهَيْن. الاتّجاه الأول إيجابي، حيث يدفأ ما كان بارداً، ويتعزّز ما كان ضعيفاً، وينتعش ما كان فاتراً، ويوصَلُ ما كان شبه مقطوع. في هذه الحالة تكون الكورونا قد أنقذَت علاقةً عائليّة كانت في الحدّ الأدنى رتيبةً، وأعطَتْ العلاقة فرصةً لترتيب الأمور. الاتّجاه الثاني سلبي، لأنّ الأزواج في علاقتهم مع بعضهم البعض، والأبوان في علاقتهما مع الأولاد قد يشعرون أنّ هذه العطلة باتت عبئاً كبيراً. وقد يتحوّل الفتور إلى توتّر، إذْ تتحرّك المياه الراكدة في العلاقة باتّجاه غير صحيح. وتتحوّل العلاقة العاديّة التي “لا فَكَاهة فيها ولا مازيّة” كما كان يقول صديقنا غوّار الطوشي، إلى علاقةٍ فيها “تِنْتيع”، وبالتالي تكون الكورونا قد فَعَلَتْ فعل الليموناضة عند الشخص “المضرور” أصلاً من دون أن يدرك ذلك، فتكشفه.
أعود إلى حيثُ انطلَقتُ وأسأل من جديد: هل اكتَفَتْ الكورونا بتشخيص علاقاتنا العائليّة، أم أنّها داوَتْها أيضاً؟ أعتقد أنّها فَعَلَتْ الإثنتين معاً. فهي إمّا أن تكون قد عزّزَت العلاقة الإيجابيّة أصلاً، وأخذتها إلى بُعدٍ جديد، وإمّا أن تكون قد ضربَتْها ضربةً قاضيةً عليها إذا كانت أصلاً سلبيّة “وما في منها نَوَى”، وإمّا أن تكون قد أعطتَها فرصةً جديدة للحياة.
في كلّ هذه الحالات تكون الكورونا قد شخّصَت علاقاتنا الزوجيّة والأبويّة خصوصاً أنّ مدّة حجرِنا المنزلي لن تنتهي قبل أسابيع عدّة من الآن. هذا التشخيص، على كلّ علّاته، ومع كلّ حسناته، كان برأيي ضروريّاً. الهروب إلى الأمام لا ينفع، وسياسة رأس النعامة لم تكُنْ يوماً حلّاً.
سمير قسطنطين
أحدث التعليقات