منذ أكثر من ثلاث سنوات والقطاع التربويُّ في لبنان يواجه أزمةً تلو الأزمة. في هذا القطاع ثلاثةُ أركانٍ أساسيّة تهتمُّ بطريقةٍ ما بالركن الرابع وهو التلميذ. أمّا الأركان الثلاثة فهي: المعلّم والأهل وإدارة المدرسة. المحزن في هذا الموضوع هو أنّ كلّ طرفٍ من هذه الأطراف الثلاثة غيرُ راضٍ عن الرُكنَين الآخرَيْن. لكنّ الجميل في الموضوع أنّ كلّ طرفٍ بذل ويبذل جهداً كبيراً لكي يبقى الطرف الرابع، أي التلميذ، راضياً. وهذا الرضى لم يكن ليتحقّق لولا تنازلاتٍ موجعة من المعلّم والأهل والإدارة. الذي يحزنُني هو أنّ مستوى التفهّم المتبادل بين هذه الأطراف يعلو ويهبط، وفي مرّاتٍ عدّة تأخذ العلاقة بين طرفين، أو بين الأطراف الثلاثة، منحىً غير صحّي في العالم التربوي، ولا يُفيد البُعد العلائقي الاستراتيجي بين المعنيّين بالتربيّة أي الـ Stakeholders of Education.
المعلّمون يشعرون بأنّ الحصول على الدرجات الستِّ التي أقرّها لهم القانون هو حقّ مقدّسٌ لهم. أستطيع أن أفهم هذا الشعور تماماً. أهل التلاميذ يشعرون أنّ الأزمة الاقتصاديّة تمنعهم من تسديد الأقساط. أنا أستطيع أن أفهم هذا الكلام علماً أنّ المدارس حاولَت وبكثيرٍ من الجهد المساهمة في تخفيف الأعباء، لكن في سنةٍ عجيبةٍ غريبةٍ مثل هذه تبدو كلّ المحاولات الصادقة من قبل المدرسة غير كافية. والمدرسة بدورها بحاجةٍ إلى مداخيل لتسديد المتوجّبات عليها وفي طليعتها رواتب المعلّمين والمعلّمات والتي تشكّل أكثر من ثلثي الموازنة. لا تستطيع المدرسة بسهولة أن تنظر في عيون المعلّمين وتقول لهم “ما معنا مصاري نعطيكن معاشاتكن”.
إذاً، الكلُّ في ورطةٍ. ولكي ندرك حجم الورطة، أودّ أن أُضيء على بعض الأرقام الموثّقة:
أولاً، يبلغ عدد التلاميذ في التعليم الخاص في لبنان حوالى المليون وماية ألف تلميذ. رقم كبيرٌ جدّاً لبلدٍ مثل لبنان. ليس هذا هو الغريب، فاللبناني يحبّ أن يعلّم أولاده. الغريب هو ما سيرد في النقاط التالية.
ثانياً، 31% فقط من هذا العدد من التلاميذ يذهبون إلى مدارس رسميّة. كثيرون ظنّوا في مرحلةٍ ما أنّ عدد تلاميذ المدارس الرسميّة سيزيد كثيراً. لكنّ الإحصاءات تقول أنّ عدد التلاميذ في التعليم الرسمي زاد بنسبةٍ تقلّ عن النصف في المئة (0،42%) !!! أليس هذا غريباً؟ هذه الإحصاءات هي أرقام العام الدراسي الماضي إذ أنّ الأرقام النهائيّة لهذه السنة لم تظهر بعد.
ثالثاً، من مجموع المليون والماية ألف تلميذ، يذهب حوالى الـ 53% إلى مدارس خاصة غير مجانيّة! هل تصدّق أنّ هذه النسبة هي من أعلى النسب في العالم شرقاً وغرباً؟
رابعاً، يذهب 13% من التلاميذ إلى مدارس خاصّة مجّانيّة أو شبه مجّانيّة تدعمها الدولة، فيما يذهب الباقون إلى مدارس متنوّعة من مثل مدارس الأنروا وغيرها.
ماذا يعني هذا الكلام؟ هذا يعني أنّ ثقة الناس في المدرسة الخاصّة تبقى ثقةً عالية، وأنّ خيار الناس الأساسي هو المدرسة الخاصّة، وهذا ما لا يصحّ على واقع الحال في معظم بلدان العالم.
في موازاة هذه الحقائق، هناك وضعٌ معترِضٌ وبقوّة على إجراءات المدارس. فمنذ أكثر من سنة، وأنا أسمع وأقرأ دعوات متتالية وجّهتها لجان الأهل في مدارس خاصة واتّحادات لجان الأهل في المناطق لأهالي التلاميذ لعدم دفع الأقساط المدرسيّة. حتى أنّ أحدهم وصل به الحدّ في أحد اللقاءات العامّة إلى الدعوة لاسترداد الأموال المنهوبة من المدارس! قبل أيّامٍ قليلة طالَبَت لجان الأهل المدارس والدولة بإعفائها من الأقساط المدرسية المتبقّية للسنة الدراسيّة الحاليّة! هذا في وقتٍ تضغط الدولة على المدارس لتسديد معاشات الأساتذة كاملةً، فيما تنشط نقابة المعلّمين في كلّ اتجاه للتأكّد مِن أنّ إدارات المدارس ستحوّل المعاشات إلى حسابات المعلّمين في نهاية كلّ شهرٍ. أعتقد أن حقَّ المعلمين والمعلّمات أن يتقاضوا أجورَهم كاملةً بغضِّ النظر عن الوضع الاقتصادي. أنا أتكلّم هنا عن الحقِّ في ذلك وليس عن التوقيت أو الآليّة. لكنّ السؤال الكبير هو: “إذا أصرَّ الأهل على عدم الدفع، ومن بينهم ميسورون “على فوقا”، وإذا أرادَت المدرسة أن تعطي المعلّمين حقوقهم وفي حينه، وإذا تمادَت الدولة في تجاهل نداءات المدارس لها للتدخّل، ماذا يحصل عندها؟
أودّ أن ألفت نظر لجان الأهل وَليَ بينهم أصدقاء وأحبّاء كثر، إلى حقائق وأفكار في عالم التربية:
أوّلاً، أنتَ كأهل تشكو من غلاء القسط المدرسي. أنا لا أُريد أن أقول أنّه لا يحقُّ لكَ أن تشتكي. ولا أُريد أن أُقنعَكَ بأنّ التربية في العالم اليوم مكلفة Education is Expensive، لكن هل تعلم أنّ كلفة تعليم التلميذ الواحد في القطاع الرسمي، إذا اعتبرنا الكلفة الوحيدة هي أجور المعلّمين، هو 2234 دولاراً أميركيّاً؟ وإذا أضفنا إليها الكلفة التشغيليّة للمدرسة، وهي بحسب القانون اللبناني 35% من الموازنة، تصبح كلفة التلميذ الواحد في المدرسة الرسميّة 3436 دولاراً أميركيّاً. ألا تعتقد أنّ معدّل كلفة التلميذ في القطاع الرسمي تفوق معدّل كلفة التلميذ في القطاع الخاص؟ الغريب في الموضوع أنّنا لم نعترض يوماً على ارتفاع كلفة التلميذ في القطاع الرسمي علماً أنّنا نحن من نموّل تعليمه من الضرائب والرسوم التي ندفعها للدولة.
ثانياً، إذا كان أولادنا لا يذهبون إلى المدرسة حاليّاً، فهذا لا يعني أنّهم لا يتعلّمون. وهذا لا يعني أنّ المعلمّين والمعلّمات “عَمْ يشربوا أرغيلة” طوال النهار. المعلّمون هُم تحت ضغطٍ كبير، وهُم يمضون ساعاتٍ طوال يحضرّون دروساً لتعليمها “عن بُعد” أي من خلال الـ Distance Learning. بالتالي، لهؤلاء الحقُّ في تقاضي أجورهم. وهذا يعني في ما يعنيه أنّ التزام الأهل بتسديد الأقساط مسألةٌ غير خاضعة لاجتهاداتٍ غير قانونيّة.
ثالثاً، إنّ عقدَ المدرسة مع المعلّم هو عقدٌ سنوي يمتد على إثني عشر شهراً. وبالتالي لا يمكن للمدرسة قانوناً أن تتمنّع عن دفع رواتب المعلّمين كاملةً. لعلّها تستطيع من باب “المَونِة” أن تتفاوض معهم على آليّة الدفع في هذا الزمن العجيب، لكن في نهاية المطاف، فالمدرسة ملتزمةٌ دفعَ الرواتب كاملةً.
رابعاً، إنّ الدعوات لعدم الدفع قد صدرت قبل أزمة الكورونا، وحتّى قبل 17 تشرين الأوّل. وأريد أن أُجّه سؤالاً إلى أهل التلاميذ الذين لا يريدون أن يسدّدوا أقساط أولادهم عن السنة الماضية حتّى. أسألُهم: “لماذا وبأيّ منطق”؟ أنتم قبِلتُم أن يتسجّل أولادُكم في المدرسة الخاصّة، وأنتم علمتم بقسط المدرسة قبل التسجيل. لماذا تغيّرون رأيكم الآن؟ أنا متأكّد أنّ كثيرين من المتمنّعين “عملوا واسطات ليوم الواسطات” لكي تقبل المدرسة أن تسجّل ولدهم. فجأةً يتحوّل الموقف إلى موقفٍ عدائي من المدرسة.
خامساً وأخيراً، إذا كان لديك شعورٌ بأنّ إدارة المدرسة سارقة، وبأنّ لها ممارسات غير أخلاقيّة من الناحية الماليّة، دعني أقول لكَ أنّي لن أُدافع عن أحد. في الوقت نفسه أودّ أن أسألك: “كيف تسلّم ولدك إلى سارقين لكي يربّوه؟ ما هذا التناقض”؟ أنتَ لا تريد أن تنقل ابنك أو ابنتك إلى أيّة مدرسةٍ أخرى، لكنّك في الوقت نفسه تتعاطى مع إدارة المدرسة كأنّها سارقة أو هي بالحدّ الأدنى في دائرة الاتّهام طوال الوقت. “إيه كيف هيك يعني”؟ أنتَ لا تريد سوى هذه المدرسة مدرسةً لولدك لكنّك “حاكمها إعدام”!!! غرابة ما بعدها غرابة. قد تقول لي أنّ المدرسة في سنةٍ سابقة رفعتَ القسط في منتصف العام الدراسي. عظيم، وأُريد أن أُجاريك وأقول أنّ هذا ليس حقّاً. لكن لماذا لم تسدّد القسط الذي كُنتَ متّفقاً عليه مع المدرسة قبل الزيادة؟ في الواقع، لا بدّ من الحديث عن حقيقةٍ وهيَ أنَّ هناك العديد العديد من الأهل، وبالرُّغم من كلِّ الصّعاب، وفي كلِّ الصّعاب، يلتزمون بأخلاقيّاتهم بتسديد ما أمكن من الأقساط لأنَّهم يعرفون أنَّ الموظَّف والعامل والأستاذ في مدرسة أولادهم هو منهم ولهم وفي خدمةِ أبنائهم، ويعرفون أنَّ الأزمات هي مطهر الأخلاق وفيها يظهر إيمان الإنسان عن طريق ترجمة هذا الإيمان إلى عملٍ صحيحٍ. هُم لا يلتفتون إلى دعوة عدوانيَّةٍ من هنا ولا إلى تحريضٍ لا إنسانيٍّ من هُناك.
بناء على ما تقدّم، أعتقد أنّ القطاع التربويّ الخاص الذي يعلّم أكثر من ثلثي أولادنا يتّجه بخطى ثابتة، وإن كانت بطيئة بعض الشيء حتّى الآن، نحو الانهيار الكامل. هذا يعني أنّ ستّين ألف عائلة وأكثر مهدّدة في لقمة عيشها، وهذا العدد يمثل المعلّمين في القطاع الخاص.
لذا لا بُدّ من خطّة آنيّة لوقف الزحف نحو الانهيار. لن أطلب من الدولة في هذه الخطّة أن تسدّد معاشات الأساتذة في التعليم الخاص لأنّها لن تفعل ذلك. “إيّام اللولو ما هلّلولوا”. لعلّ هذه الخطّة، وأُشدّد على أنّها آنيّة، لأنّ الحل النهائي يجب أن يكون استراتيجيّاً، تقوم على ما يلي:
بالنسبة للدولة:
على الدولة أن تقوم فوراً بخطوتَين إثنتين على الأقل: الخطوة الأولى تتمثّل في تسديد الدولة المبالغ المتأخّرة المتوجّبة عليها للمدارس المجّانيّة عن السنوات السابقة وهي أربع أو خمس سنوات. هذا حقٌّ لهذه المدارس، ومستحقّاتٌ على الدولة. المدارس لا تطالب هنا بغير حقّها ولا تسعى إلى أعباء إضافيّة على الخزينة. لمّا تفعل الدولة ذلك، فهي ترفع العبء عن كاهل المدارس المجّانيّة وهي الأكثر تضرّراً الآن، كما ترفع عبء هذه المدارس عن الجهات المالكة لها والتي تملك في الوقت نفسه مدارس عاديّة، فتتفرّغ الجهات المالكة إلى دعم المدارس العاديّة. أمّا الخطوة الثانية فتتمثّل بتسديد المستحقّات عن أولاد أفراد القوّات المسلّحة فوراً ومباشرةً للمدارس. الدولة تساهم بتعليم أولاد أفراد القوّات المسلّحة. هذا أمرٌ مبتوتٌ لا نقاش فيه. لكن ما تفعله الدولة عادةً هو أنّها تسدّد هذه المبالغ المستحقّة بعد نهاية السنة أي في شهرَي تموز وآب، كما أنّها تدفعها مباشرة لأفراد القوّات المسلّحة. فإذا كان أحدُ هؤلاء مديوناً للمصرِف وجاءه المبلغ من الدولة على شكل حوالة كما يحصل عادةً، فإنّ المصرف يأخذ هذا المبلغ ولا يعطيه للعسكري. لذا، وبما أنّ الأمر مبتوتٌ، أوجّه في هذه الخطّة دعوةً للدولة لكي لا تتأخّر بدفع هذه المبالغ، وأن تحوّلها للمدارس مباشرةً، تماماً كما تفعل بخصوص أولاد العسكريّين في الجامعات. إذا فَعَلَت الدولة ذلك، تكون قد أعطَتْ المدارس بعض الأوكسيجين لتتنفّس لشهرٍ أو شهرين.
بالنسبة للأهل:
تقضي هذه الخطّة بأن يقوم الأهل بخطوتَين أساسيّتَين، لا أعتقد أنّ اثنين في الجمهوريّة اللبنانيّة يختلفان على حقّ المدرسة فيهما. الخطوة الأولى تقضي بتسديد الأقساط المتأخّرة عن العام 2018-2019. في هذه الحالة، لا يستطيع الأهل أن يتحجّجوا بارتفاع الأقساط المدرسيّة في مدرسة أولادهم. لو كان هذا صحيحاً، فلماذا سجّلوا أولادهم في المدرسة نفسها لهذه السنة؟ ليس ذلك فحسب، بل أنّ المدرسة قد سدّدت معاشات معلّميها وموظّفيها كاملةً عن السنة الماضية إلّا في حالاتٍ إستثنائيّة جدّاً. أمّا الخطوة الثانية فتتمثّل بتسديد القسط الأوّل من السنة الدراسيّة الحاليّة. هذا الأمر يتماشى مع طلبات لجان الأهل التي دعَت المدارس إلى الاكتفاء بالقسط الأوّل. إذاً لجان الأهل ليست ضد تسديد القسط الأوّل. إذا فعل الأهل ذلك والتزموا به، تأخذ المدرسة نَفَساً مضاعفاً لشهرٍ أو شهرين إضافيّيَن.
بالنسبة للمدرسة:
في الخطوة الأولى أتوقّع من المدرسة، أن تُعطي تسديد معاشات المعلّمين والمعلّمات أولويّةً مطلقة، وإنّي أرى ذلك حاصلاً في مواقع كثيرة. والخطوة الثانية تتمثّل في الاكتفاء في الوقت الحاضر بالقسط الأول من السنة الحاليّة. لكنّ طلبي من المدارس لن يكونَ مُنصِفاً، ما لم تبادر الدولة إلى القيام بما تقدّم، ويبادر الأهل إلى القيام بواجباتهم. ساعتئذٍ يمكننا الضغط على المدارس للتريّث لجهة تحصيل المتبقّي من الأقساط. لكن إذا تمنّعَت الدولة عن القيام بواجباتها التي هي أصلاً مُقرَّة بالموازنات كلّها، وإذا تمنّع الأهل عن تسديد مستحقّات السنة الماضية والقسط الأوّل من هذه السنة، لا أعتقد أنّه يمكننا ساعتئذٍ أن نرمي كلّ عبء الحلِّ على إدارات المدارس.
المشكلة ببساطة كبيرة وخطيرة وهي فعلاً تهدّد مصير ستّين ألف عائلة، مُعيلوها من المعلّمين. وهي تهدّد أيضاً مصير التلاميذ لأنّ التعليم الرسمي لا يستطيع أن يستوعب هذه الأعداد. إذا قُمنا جميعاً بواجباتنا المنطقيّة والبديهيّة، نكون جميعاً قد التقطنا أنفاسَنا بعض الشيء لكي نتفرّغ للتفكير استراتيجيّاً بحلولٍ مستدامة وسط ظروفٍ تتّجه أكثر وأكثر نحو التصعيد والعبثيّة.
أعودُ إلى السؤال العنوان: لمصلحة من إنهيار المدارس الخاصة؟ لا أعتقد أنّ أيّاً منّا له مصلحة بهذا الانهيار. إذاً الكلُّ معنيٌّ بالإنقاذ قبل الكارثة. أنا والدٌ لتلميذيَن، ولا مصلحة لي بأن تنهار مدرسةُ ولديّ، وأنتَ والدٌ أيضاً، وأنتِ والدةٌ أيضاً، ولا أظنّ أنّي أستطيع المزايدة عليكما في حرصكما على مدرسة أولادكم، فإنّنا بالتالي جميعنا إنّما نحافظ على أولادنا أنفسهم.
سمير قسطنطين
أحدث التعليقات