مع اقتراب انتهاء الحرب العالميّة الثانية، وتحديداً في العام 1943، خرج أبراهام ماسلو بما أسماه “نظريّة الدافع البشري” أو ما أطلق عليه بالإنكليزيّة إسم A Theory of Human Motivation ، تحدّث فيها ماسلو عن خمسة مستويات من الحاجات الإنسانيّة. وقد تدرّجت هذه الحاجات صعوداً حسب أهمّيتها في شكل هرمي. أدنى هذه الحاجات هي تلك الفسيولوجية، وأعلاها الحاجة لتحقيق الذات.
في الحاجات الفسيولوجيّة Physiological Needs أعطى ماسلو أمثلة التنفس، والطعام، والماء، والجنس، والإخراج، والنوم. ثم تأتي احتياجات الأمان Security and Safety Needs في مرتبةٍ أعلى منها مباشرةً، وفيها الحاجة إلى السلامة الجسدية بعيداً من الاعتداء والعنف، والأمان في الوظيفة التي يشغلها الإنسان، والأمن النفسيُّ والمعنويُّ، والأمن داخل الأسرة، والأمن الصحيُّ، وأمن الممتلكات الشخصيّة ضد الحوادث والجرائم. في منتصف الهرم تأتي الحاجات الاجتماعية Social Needs التي يريد الإنسان تحقيقها وهي: تحقيق العلاقات العاطفيّة والحصول على الحبِّ، وتحقيق العلاقات الأسريّة السليمة، والقدرة على اكتساب الأصدقاء، والرغبة في الانتماء إلى المجموعات الكبيرة كالجماعات الدينيةّ، والفرق الرياضيّة، والمنظّمات المهنيّة. الحاجة للتقدير Esteem Needs تأتي في المرحلة الرابعة صعوداً وهي تتمثّل في رغبة الشخص في تحقيق المكانة الاجتماعيّة المرموقة والمنصب الرفيع ممّا يكسبه الإحساس بالثقة والقوّة بالإضافة إلى كسب احترام الآخرين. وعلى رأس هذه الحاجات تأتي الحاجة لتحقيق الذات Self-Actualization Needs، وفيها يحاول الفرد تحقيق ذاته من خلال تعظيم استخدام قدراته ومهاراته الحاليّة والمحتملة لتحقيق أكبر قدرٍ ممكن من الإنجازات.
هذه المستويات الخمسة من الحاجات يدرسها معظم الذين يدخلون الجامعة ولا سيّما أولئك الذين يتابعون اختصاصات علم الاجتماع، علم النفس، إدارة الأعمال، التربية أو غيرها من الاختصاصات الجامعيّة.
هذه المستويات كانت واقعيّة وحقيقيّة إلى أن جاءت الكورونا. الوباء العالمي قلبَ الدنيا رأساً على عقب، وكاد أن يُلغي ثلاثة مستويات من الحاجات، أقلّه في الوقت الحاضر. المستويان الوحيدان اللذان يهمّان الناس في الوقت الحاضر هما: الحاجات الفسيولوجيّة وحاجات الأمان فقط. في الحاجات الفسيولوجيّة تبرز الحاجة إلى الغذاء إلى الواجهة وخصوصاً في خضمّ الأزمة الاقتصاديّة الخانقة في لبنان، وكذلك الأزمة الاقتصاديّة في العالم، إذ أنّ جائحة الكورونا أفقدت وستفقد حوالى ثلاثين مليون شخصٍ في العالم وظائفهم الحاليّة. ومن صنف هذه الحاجات تبرز الحاجة إلى التنفّس خصوصاً وأنّ الكورونا هو فيروس يتسبّب بحالات عدوى الجهاز التنفسي. المستوى الثاني الذي بقي للناس من “هرم ماسلو” هو احتياجات الأمان Security and Safety Needs وبنوعٍ خاص الحاجة إلى السلامة الجسديّة والأمان في الوظيفة التي يشغلها الإنسان، والأمن النفسيُّ والمعنوي. كلّ الأنواع الأخرى للأمان غير مطروحة حاليّاً.
وماذا بالنسبة للحاجات الأخرى؟ بالنسبة للحاجات الاجتماعيّة، من من الناس مهتمٌّ الآن بتحقيق العلاقات العاطفيّة والحصول على الحبِّ، والقدرة على اكتساب الأصدقاء، والرغبة في الانتماء إلى المجموعات الكبيرة؟ كلّ هذه الأمور لا تخطر ببالنا الآن، لا بل نعتبر قلّتها أفضل لنا ولصحّتنا وسلامتنا الجسديّة. وأمّا بالنسبة للحاجة للتقدير، فمن منّا مهتمٌّ الآن في تحقيق المكانة الاجتماعيّة المرموقة أو المنصب الرفيع؟ أعتقد لا أحد. لا يخطر ببالنا أنّ حاجةً كهذه مطروحةٌ في الأساس. وأمّا النوع الأخير لا بل الأوّل في سلّم الحاجات فهو الحاجة لتحقيق الذات. لا أعتقد أنّ أحداً منّا يحاول الآن تحقيق ذاته وتحقيق أكبر قدر ممكن من الإنجازات. لا أحد على ما أعتقد.
كلُّ ما يريده الناس حاليّاً هو الطعام وهواءٌ غير مُعدي على مستوى الحاجات الجسديّة، وسلامةٌ جسديّةٌ وأمان وظيفيٌّ في العمل الذي يشغله المرء. ما هو أكثر من ذلك بات يشبه الكماليّات في حياتنا أو قطع الإكسسوار للأشياء التي نملكها!!!
“معقول” هذا الحدّ الذي وصلنا إليه؟ أإلى هذه الدرجة اختصر الكورونا حياتنا وأولويّاتنا؟ أإلى هذا الحدّ يبدو الإنسانُ ضعيفاً أو عاجزاً أو “بدّو السترة”؟ نعم إلى هذا الحدّ نبدو ضعفاء. كلّ الكائنات الحيّة ما عدا الإنسان تبدو مرتاحة في زمن الكورونا. فقط نحن غيرُ مسرورين ولا مطمئنّين. حاجاتنا باتت مختصرة وكذلك طموحنا أو قُل قدرتنا. سبحان الله! فيروسٌ صغيرٌ لا يمكننا أن نراه ردّنا إلى أحجامنا الطبيعيّة، جعلنا نفتكر ما إذا كنّا نحن الفيروس الحقيقيّ في هذا الكون حيثُ أخَفْناه وأرْهَبْناه وكبّلناه! جعلنا ندرك وربّما لأوّل مرّة أنّ الكون يقدر أن يُصلح نفسه من دوننا.
سمير قسطنطين
كلامك كتير حلو.. وانشالله هل الازمه تكون غيرت طريقه تفكيرنا للاحسن ونعرف شو اواوياتنا بالحياه ونشتغل عليها..