لم يكن صعباً على أيّ كان ملاحظة حجمَ الهجمةِ على القطاع التربويّ الخاص، هذه الهجمة التي لم تتوقّف منذ ثلاث سنوات، وهي سابقة لانتفاضة 17 تشرين الأوّل ولجائحة كورونا. في بعض الأحيان يزيّنُ المهاجمون كلامَهم بكلماتٍ مثل هذه: “أنا ما بقصد كل المدارس. في البعض منّن كتير مناح”. لكنّ الهجوم مستمرٌّ من غير رحمة، وآخر البيانات صدر يوم أمس عن إتّحاد لجان الأهل وأولياء الأمور دعا إلى “الامتناع عن تسديد أي قسط مدرسي يرسل بعد القسط الأول لهذا العام”. وعلّل البيان الطلب بعدّة أسباب ليس لِلِجان الأهل دخلٌ فيها من مثل “حصر النفقات الإدارية فقط في الخدمات الأساسية”. طلبٌ يشبه طلب المستأجر من صاحب الملك مثلاً أن يتعشّى بطاطا مسلوقة كلّ ليلة لأنّه لا يريد تسديد الإيجار! طبعاً أغفل الاتّحاد أمر عدم تسديد الأهل من القسط الأوّل لأكثر من 49%.

لماذا هذا الهجوم؟ هذا الهجوم وببساطة يستعر في كلّ مرّة تطالب المدرسة الخاصة الأهل بدفع الأقساط. ليس بين الأهل شخصٌ واحدٌ يهاجم مدرسة أولادِه بسبب تدنّي المستوى التربويّ فيها. قد تقول لي أنّ الأزمة الخانقة الحاليّة هي التي تسبّبت بهذا المأزق. وأنا أقول لكَ أنّ هذا الأمر ليس صحيحاً. الهجوم بدأ منذ زمنٍ. لعلّه استعر الآن، لكنّه سابقٌ لهذه الأزمة بوقت طويل. ببساطة كاملة، هناك أهلٌ يريدون أن يعلّموا أولادَهم بمدرسة خاصّة لكنّهم لا يريدون أن يقوموا بواجباتهم تجاه معلّمي أولادهم. حُجّتهم هي أنّ المدرسة الخاصّة تملك في خزائنها الكثير من المال وهي قادرة على دفع رواتب المعلّمين حتّى ولو لم يسدّد الأهل قسط أولادهم. هذا هو الموضوع باختصار.

قد تقول لي أنّ الوضع المالي للعائلة قد تغيّر، وأنا أقول لكَ هذا صحيح. لكنّي كوالدٌ، وفي حالةٍ مثل هذه، يتوجّب عليّ الذهاب إلى إدارة المدرسة، وشرح وضعي المالي لها بالتفصيل وبصدق. فإذا وصلتُ إلى حلٍّ ملائمٍ لي وللإدارة، أُبقي أولادي هناك، وإذا لم يحصل ذلك، فإنّي بكلّ بساطة أنقل أولادي إلى مدرسة خاصّةٍ أخرى أقلّ كلفةٍ، أو إلى مدرسة رسميّة. هكذا الأمر ببساطة. قد تقول لي: “لكنّنا إذا نقلنا أولادنا جميعاً من مدرسةٍ معيّنة إلى مدارس أُخرى، فإنّ المدرسة ستقفل حتماً”. وأنا أقول لكَ: “تِسْطِفِل … هيدي مسؤوليّة المدرسة مش مسؤوليتك”. في عالم الاقتصاد هناك قانونٌ أساس يُدرَّس في مادّة الـ Micro-Economics، وهي أوّل مادّةِ اقتصادٍ في السنة الأولى الجامعيّة. هذا القانون هو “قانون العرض والطلب” أي The Law of Supply and Demand. انعكاسات مندرجات هذا القانون الاقتصادي على المدرسة ليست من مسؤوليّاتك. كلُّ مؤسّسة تتحمّل تبعات قراراتها.

لذا يثير استغرابي هذا التشويه الحاصل للمدرسة الخاصّة على أيدي أُناسٍ ساعدَتْهم المدرسة الخاصّة على الوصول إلى محطّات مهنيّة مشرّفة في حياتهم وأعطَتْهم دفعاً كبيراً. كما أستغرب هذا الهروب إلى الأمام من قِبَل الدولة تجاه المدرسة الخاصّة وخصوصاً المدارس الخاصّة المجانيّة وعددها 366 مدرسة. من المفترض أن تدعم الدولة كلّ تلميذ في هذه المدارس بمبلغٍ يفوق المليون ليرة بقليل، لكنّها لا تفعل، في حين تتخطى هذه الكلفة عتبة الـ 5.000.000 ل.ل. في المدرسة الرسمية.

منذ بضع سنوات، بدأ تصوير المدارس الخاصّة في كثيرٍ من الأحيان على انها مصّاصُ دماءٍ جماعي لجيوب النّاس. الغريبُ في الموضوع أن أحداً لا يقول أنني قد اخترتُ المدرسة الخاصة بالمطلق بملء إرادتي، وقد اخترتُ المدرسة الخاصّة الفلانيّة بالذات لتكون مدرسة أولادي، وإني بملء إرادتي لم أُرسل ولدي إلى مدرسةٍ رسميةٍ موجودةٍ في قريتِنا أو بلدتِنا أو مدينتَنا، أو إلى مدرسةٍ خاصّةٍ أخرى. لم يجبر أحدٌ في الكونِ أيّاً منّا أن يُرسِلَ أولادَه إلى هذه المدرسة الخاصة أو إلى تلكَ المدرسة الرسميّة. التّعليمُ في لبنان حرٌّ وحرُّ وحرُّ كما غنّت ماجدة الرّومي. هذا الهجوم على المدرسة الخاصة يتلازم مع عباراتٍ تَسمعُها من وقتٍ إلى آخر من مثل: “علينا أن ندعمَ المدرسة الرسميّة” أو أنّ “التّعليم الرسمي أهمَّ بكثير من التَّعليمَ الخاص”. من قالَ عكسَ ذلك؟ لا أحد.

في سنواتي المدرسيّة عجزَ أهلي ولثلاث سنواتٍ متتالية عن إرسالي إلى المدرسة الخاصة التي كُنتُ أدرس فيها قبلاً وهي المدرسة الإنجيليّة في المصيطبة، وبالتالي سجّلوني في مدرسة رسميّة أصبح إسمها اليوم ثانويّة جبران التويني، وتقع في منطقة الأشرفيّة. درستُ على يد عمالقةٍ في التربية أذكر منهم سعيد حمصي وعايدة خوري وأحمد عُلَبي وإيفلين يونس وجونيور عجاقة. أسماءٌ كبيرة في التربية لها وزنُها حتّى اليوم. وما الضير في ذلك أي في ما حصل؟ لذا أسأل: من قال أنّ باب المنافسة مفتوحٌ بين القطاعَيْن؟ ومن يُجبرُني أن أُرسلَ أولادي إلى مدرسةٍ خاصة؟ لا أحد. من يمنعني من إرسال أولادي إلى مدرسة رسميّة؟ لا أحد. ومع ذلك كلّه، وفي كلّ مرةٍّ تتحدّث فيها عن تاريخ المدارس الخاصة وما فعلَتْهُ من أجل لبنان، يقفزُ أحدٌ من مكانٍ ما ويقول: “التّعليمُ الرسميّ هو بالجودةِ نفسها وأفضل”. من قالَ غيرَ ذلك؟ لا تدّعي المدرسة الخاصّة على الإطلاق بأنها الأفضل تربويّاً. فلماذا نُهاجمُها من أجلِ أمرٍ لم تقُلْهُ وبسببِ شيئٍ لم تفعلْهُ؟

أودُّ في هذا السّياق أن أُوجّه إلى الذين يستعجلون إسقاط التّعليم الخاص في لبنان بفضلِ دعواتهم المتلاحقة لعدم دفع الأقساط، وبفضل نعتِ إدارات المدارس الخاصة بأنّها سارقة، وبفضلِ دعواتهم للمدارس الخاصة بأن تردَّ إلى النّاس “المال المنهوب” على حدّ تعبيرهم في أكثر من مكانٍ ومقال، أودُّ أن أسألَ هؤلاء مجموعةَ أسئلةٍ:

هل تعلم أن المدرسةَ الخاصة عمرُها مئاتُ السّنين؟ وهل تعلم أنّ وجود المدرسة الخاصّة سابقٌ لتأسيس لبنان؟ وهل تعلم أنّ الكنيسة المارونيّة في لبنان أسّست أوّل مدرسة في بلدة حوقة في جبة بشرّي، عام 1624؟

وهل تعلمْ أنّ التعليم الخاص، ومنذ تأسيس المدرسة المارونيّة في روما في العام 1584، أعطى لبنان وجهاً ثقافيّاً حضاريّاً ميّزه على امتداد مئات السنين عن محيطه الجغرافي؟
هل تعلم أن الدولة اللبنانيّة طلبتْ من المرجعيّات الدينيّة تحديداً فتحَ مدارس خاصة مجّانيّة في مناطقَ بعيدة في أيّام الرّئيسين كميل شمعون وفؤاد شهاب؟ وهل تعلم أنّ الرئيسين شمعون وشهاب إستعملا حجّةً مع المرجعيّات الدينيّة الكاثوليكيةً والسنيّة في مرحلة البدايات، مفادُها أنّ الدّولة لا تستطيع أن تذهب إلى المناطق البعيدة وتفتحَ لها مدارسَ رسميّة هناك، فيما الدّولةُ تُريدُ أن تُعلّمَ هذه الشّرائح المجتمعيّة، لذا قالت لهم آنذاك “قوموا أنتم بهذه المهمّة”.

هل تعلم أنّ المدرسة الرسميّة ووراؤها دولةٌ “بإمّا وبيّا” تعلّمُ ثلاث ماية ألفَ تلميذٍ لبنانيٍّ فقط؟ وهل تعلم أنّ المدرسةَ الخاصّة في المقابل تُعلّمُ سبع مايةَ ألفِ تلميذٍ؟ وهل تعلم أنّ هاتين النسبتين 30% – 70% غير إعتياديتين في أيّ بلدٍ في العالم؟

هل تعلم أنّ عدد المدارس الرسميّة في لبنان يفوق الألف ومايتي مدرسة بقليل؟ وهل تعلم أنّ عدد المدارس الخاصة في لبنان يُقاربُ الألفي مدرسة؟

هل تعلم أنك أنتَ يا من تُهاجم المدرسة الخاصة يُمنةً ويُسرةً قد اخترتَ المدرسة الخاصة لتُرسلَ إليها ولدكَ لأنّكَ اعتبرتها مدرسةً متفوّقةً (ليس على شقيقتِها الرسميّة) عِلماً وتربيةً وثقافةً ونشاطات؟

هل تعلم أنّ المساعدات التي تأتي من دولٍ أوروبيّة ومن الولايات المتّحدة والبنك الدولي للتّعليم الرّسمي في لبنان تفوقُ بكثير تلك المساعدات التي تأتي من هذه الإرسالية أو تلك إلى هذه المدرسة أو تلك وهي تُقدّر بعشرات الملايين من الدولارات؟

هل تعلم أن كلفةَ تعليم التّلميذ في المدرسة الخاصّة هي أقلّ من كلفة تعليمه في المدرسة الرّسميّة؟ وبالتّالي هل تعلم أنّكَ أنتَ وأنا ندفعُ من جيوبنا وتحديداً من ضرائبنا كلفةَ هذا التعليم مشاركةً منّا في صنعِ لبنانٍ أفضل؟

هل تعلم أنّ الغالبيّة الساحقة من اللبنانيّين هُم نِتاج التعليم الخاص؟

هل تعلم كلّ ذلك أيُّها المستعجل على إسقاط المدرسة الخاصة بالضربة القاضية؟

لماذا لا يثورُ النَّاس على المدرسة الرسميّة، وعلى وزارة التّربية وعلى التّعليم الرسميّ؟ طبعاً أنا لا أدعو إلى هذه الثورة، لكنّي أسأل لماذا هذا الإستهداف الذي لم يتوقّف منذُ ثلاث سنوات للتعليم الخاص؟

قبل أن تتحمّس للردِّ عليّ وعلى أسئلتي، دعني أعترفُ معكَ بأربعة أخطاء ارتكَبَتْها بعضُ المدارسِ الخاصّة في حقّ نفسها وحقّك كأهل وكذلك في حقّ المدارس الخاصة الأخرى:

أوّلاً، دعني أعترف معك ولكَ أنّ مدارس قليلة جدّاً بالغَت في الأرقام التي قدّمتها عن طريق موازاناتها، فجعلت معاش المدير وهو رجل دين، رقماً خياليّاً.

ثانياً، دعني أعترف أنّ بعض المدارس، ولا يتخطّى عددُها عدد أصابع اليدين، ووزارة التربية تعرف ذلك، أدخَلَت أسماء وهميّة لمعلّمين علمانيّين ورجال دين في لائحة أسماء المعلّمين ومعاشاتهم في اللوائح التي أرسلتها إلى الدولة.

ثالثاً، دعني أعترفُ أن البعضَ منها، قد قام بمشاريعَ عمرانيّة غير مبرّرةٍ، فرضت عليها ديوناً للمصارف، أنهَكَتْها وأنهكت الأهل معها.

رابعاً، وأكثر من ذلك، هل هناك مدارس خاصّة لا مستوى تربويّاً لائقاً لتعليمها؟ طبعاً. هل هناك مدارس خاصّة تشبه الدكاكين؟ بالطبع هناك. الدولة هي المسؤولة عن استباحة بعض المدارس “التجاريّة” لقطاع التربية. لكن ماذا عن الغالبيّة الساحقة من المدارس الخاصّة؟ هذا الوصف لا ينطبق عليها.

لكنّي أسألك: “ما هو عدد هذه المدارس التي خالفتْ في شؤون المال؟ واحدة؟ إثنتان؟ عشر؟ وما هي نسبة عدد هذه المدارس بالمقارنة مع ألفي مدرسة خاصّة في لبنان؟”
أعتقد أنّ حجم التجنّي على المدرسة الخاصّة قد تخطّى كلّ حدٍّ، وحجم الاستعداء لها لم يعُد مقبولاً من قِبَلِ أُناسٍ ساهمت المدرسة الخاصّة بتشكيل شخصيّاتهم. وأعتقد أنّ حجم تنكّر الدولة اللبنانيّة لحقوق المدرسة الخاصّة التي أنقذت الدولة من “بهدلة” تقصيرها في تعليم الناس، بات أكبر من أن تتحمّله المدرسة. ولأنّ التجنّي والإنكار قد تسبّبا بكلّ أنواع الجروح في العلاقات بين الأهل وإدارة المدرسة، وبين الإدارة والمعلّمين، وبين المعلّمين والأهل، أتمنّى أن يحصل التالي:

لو كُنتُ إتحاد المدارس الخاصّة في لبنان لعقدتُ مؤتمراً صحافيّاً اليوم قبل الغد، قٌلتُ فيه كلمات قليلة فحواها التالي: “لمّا كانت المدارس الخاصّة بنظر العديد من إتّحادات الأهل سارقةً لجيوب الناس وأنّ مسؤوليها جَشِعون، ولمّا كانت الدولة اللبنانيّة بكلّ مكوّناتها غير داعمةٍ للمدرسة الخاصّة التي أخذَت على عاتقها 70% من عبء التعليم في لبنان رافعةً هذا الضغط عن كاهل الدولة المسؤولة أوّلاً وآخراً عن تعليم الناس، ولمّا كانت الحكومات اللبنانيّة المتعاقِبة قد تأخّرت عن دعم المدرسة الخاصّة المجّانيّة لخمس سنوات علماً أنّ التلميذ في المدرسة المجّانيّة يكلّف الدولة أقل بكثير مما يكلفها تعليمه في المدرسة الرسميّة، نحن نطالب بحلٍّ فيه توزيعٌ للخسارة لا تحقيق للمكاسب، فالظرف تاريخيٌّ ومفصليٌّ، وإلّا فإنّنا نعلن إقفال المدارس الخاصّة كلّها. لنذهب جميعاً إلى التعليم الرسمي فوراً، ولتتحمّل الدولة مسؤوليّاتها التربويّة التي لم تتحمّلها كما يجب منذ أكثر من خمس سنوات”.

خْلِصنا بقى … هزُلَتْ.

سمير قسطنطين