لم يُعرَف لبنان يوماً بصناعتِه على رغم وجودِ قطاعاتٍ إنتاجيّة من طبيعة الصناعات الخفيفة والمتوسّطة. ولم تكن الزراعة في يومٍ من الأيّام هي المصدر الأساس للناتج القومي الإجمالي GDP على رغم الجهد الذي بذلَه اللبنانيّون لتنمية هذا القطاع. لكنّ الدولة ضرَبته بيدِها عندما شرّعَت الحدود البريّة أمام استيراد منتجاتٍ يُنتِج المزارعون اللبنانيّون مثلَها وبوفرة. لكنّ لبنان عُرف بقطاعاتٍ خدماتيّة أعطَتْه تميُّزاً بين إخوته العرب، ووفّرَتْ له مكانةً إقتصاديّة في الشرق الأوسط. لذا استطاع اقتصادُه أن يصمدَ إلى حدٍّ كبير حتّى في سنوات الحرب الأهليّة.
هذه القطاعات أربعةٌ وهي: التربية، الخدمات الماليّة بمعنى الـ Financial Services، الصحّة والسياحة. وقد تركَت هذه القطاعات بصمةً كبيرةً في العالم العربي، وفي حياة اللبنانيّين أيضاً.
في اللمسة التي تركَها لبنان في دنيا العرب، وفي التربيةِ تحديداً، احتضن لبنان أولى المدارس والجامعات الرفيعة المستوى بمفهومها الحالي في العالم العربي. ولطالما أرسل العربُ أولادَهم إلى مدارس لبنان في أيّام العزّ، وقد ضاقت بِهِم أكثر من Boarding School آنذاك.
والخدمات الماليّة المتطوّرة، مدعومةً بالسرّية المصرفيّة، استقطَبَت رساميل عربيّة واستثماراتٍ خليجيّة كبيرة. المستشفى اللبنانيّ من جهته كان دائماً في سباقٍ مع تطوير نفسه. وفي وقتٍ ليس ببعيدٍ، بدأ مفهوم السياحة الطبّية يزدهر ويتطوّر. وقد أثبَتَت تجربة الكورونا أنّ القطاع الصحّي قادرٌ على تقديم خدمات طبّية عالية الجودة.
وأمّا السياحة، فقد ساهم جمال لبنان، خصوصاً قبل أن يغزوه الباطون، معطوفاً على طقسِه المنعش وخدماته الفندقيّة الراقية، باستقطاب سيّاحٍ عرب وأجانب لسنواتٍ طويلة.
أمّا في حياتنا نحن كلبنانيّين، فقد أعطَت هذه القطاعات الأربعة وجه لبنان أبعاداً مميّزة. فالتربية أنتجت مواطناً مثقّفاً ثقافةً عالميّة وجعلَت من الشاب اللبناني والصبيّة اللبنانيّة مواطناً عالميّاً بمعنى الـ Universal Citizen. والمصارف أنتجَت ذهناً إقتصاديّاً إستثماريّاً حيث بتَّ ترى اللبناني مُنكبّاً على فتح أشغالٍ خاصّة برساميل متواضعة أحياناً. فالمبادرة الفرديّة تجري في عروقِه، وهو بطبعِه مغامرٌ وقوي.
وفيما أنتجَت الطبابة مواطناً مطمَئِنّاً منصرفاً إلى يوميّاته، قدّمَتْ السياحةُ للسائح العربي والأجنبي مواطناً لبنانيّاً مِضيافاً مبتسماً ومنفتحاً.
لكن، كيف يبدو الوضع الآن؟
القطاع التربوي الخاص، الذي وبصراحة أعطى لبنان هويّته الثقافيّة، يبدو في طريقِه إلى الانهيار. وهذا القطاع، ما لم تقف الهجمةُ عليه من اتّحادات لجان الأهل تحديداً، وما لم يشعر أولياء الأمور أنّ قيامَهم بواجباتهم تجاه المعلّمين ليس وجهة نظر، وما لم تعتمد مؤسّساتُه في المقابل شفافيّةً كاملةً، ما لم يحصل كلُّ ذلك، فإنّ التعليم الخاص سيتراجع حجمُه إلى الثلث خلال سنتين. ويؤسفُني القول أنّه ما لم تُسرِع الدولة إلى نجدة المدارس المجّانيّة كما فَعَلَت لعقودٍ وعقودٍ من الزمن، فإنّ التعليم الخاص سينحصر بالميسورين فقط.
قطاع الخدمات الماليّة من جهته، وتحديداً الخدمات التي تقدّمها المصارف، ماذا بقي منها؟ المصارف غيرُ راغبةٍ في الحصول على ودائع جديدة، هذا إنْ وُجِدتْ. والمصارف في المقابل، لا ترغب في تقديم قروضٍ للإسكان أو لشراء السيّارات الآن، فقدرة الزبائن على سداد القروض ليست مضمونة. كذلك لا يمكن للتجّار الآن أن يفتحوا بسهولة Letter of Credit (LC) لاستيراد بضاعةٍ من الخارج، لأنّ المصارف تطالب بالـ Fresh Money لفعل ذلك، ومن أين يأتي التاجر بهذا “المال الطازج” إذا جاز التعبير؟ والمصارف غيرُ قادرةٍ على إجراء حوالاتٍ مصرفيّة إلى ولدٍ يدرس في أميركا أو أوروبا، أو إلى امرأةٍ تتطبّب خارج لبنان. ماذا بقي إذاً من العمل المصرفي بمفهومه الواسع؟ لا شيء. المصارف تتحوّل تدريجيّاً إلى كونتوار، أو قُلْ إلى نصف كونتوار لكن مع ديكورات جميلة. فالكونتوار يستقبل الودائع ويغذّيك بالـ Cash عندما تحتاجه. هذه الكونتوارات الكبيرة، لعلّها تستقبل السيولة منك، لكنّها لا تستطيع الآن إعطاءك كلّ ما تحتاجه من الـ Cash بالعملة اللبنانيّة. وأمّا عن العملة الأجنبيّة، فحدِّث ولا حرج. هي تستقبل بعض الودائع من زبائنها وليس من زبائن جدد، فهي غير راغبةٍ في فتح حساباتٍ مصرفيّة جديدة. ماذا إذاً بقي من الخدمات المصرفيّة!!!
أمّا بالنسبة للسياحة، فالقطاع يعاني كارثةً حقيقيّةً على المستوى العالمي الآن. قبل يومين أعلنت شركة تأجير السيّارات هيرتز Hertz إفلاسَها، وهي التي نقلَت الركّاب في كلّ أنحاء العالم منذ العام 1918، وامتلكت أكثر من نصف مليون سيّارة. الفنادق ليست أفضل حالاً في العالم والانهيارات بدأت، وشركات الطيران في حالةٍ صعبة جداً. موقع بلومبيرغ نشر تقريراً صادماً قبل أيّام جاء فيه أنّ شركة طيران الـ Emirates ستسرّح ثلاثين ألف موظّف من فريقها بسبب كورونا. شركة طيران أفيانكا الكولومبية، وهي ثاني أقدم شركة طيران في العالم بعد KLM الهولندية، أعلنت إفلاسها لعدم تحمّلها الأثار الكبيرة لتفشي فيروس كورونا.
القطاع الاستشفائي في لبنان، يعاني هو أيضاً، لكنّ حاجة الدولة الكبيرة إليه، يجعل سقوطه مؤجّلاً علماً أنّ مستشفياتٍ عدّة قد دقّت فعليّاً ناقوس الخطر وليس آخرها مستشفى سيّدة لبنان في جونية.
باختصار، فإنّ الأزمة الاقتصاديّة ومؤشّراتها السلبيّة التي تحدّث البنك الدولي عنها بصراحةً منذ الـ 2012، ولم يصدّقها السياسيّون اللبنانيّون آنذاك، تكفّلت ببدء انهيار القطاع التربوي، وفيروس كورونا تكفّل بخنق القطاع السياحي، والطبقة الفاسدة في لبنان تكفّلَت بانهيار الخدمات الماليّة، وكلّ الأزمات المتلاحقة التي ذكَرْتُها تحاصر القطاع الاستشفائي.
ماذا سيبقى من وجه لبنان الخدماتي والثقافي الحلو الذي جمَّلَ حضوره لمئة عامٍ على الأقل منذ إعلان لبنان الكبير، وأعطى لبنان نكهةً مختلفةً ومتميّزةً في هذه البقعة من العالم؟ بقي القليل وإلى حين.
هذا الكلام محزنٌ ومبكٍ. أستطيع أن أفهم أنّ أزمة الكورونا لم تكن في يدنا، ولم نستطع أن نفعل شيئاً أمام تأثيرِها السلبيّ على السياحة، لكن ماذا عن الفساد؟ لقد كان من صنع أيدينا.
يحضرُني في هذه اللحظات نزار قبّاني في قصيدته الخالدة “يا بيروت يا ستّ الدنيا” التي نشَرَها في منتصفِ ثمانيناتِ القرن الماضي. كتَبَ نزار هذه الكلمات: “أعترف أمام الله الواحد نعترف، بأنّْا لم ننصفْكِ ولم نرحمْكِ، بأنّْا لم نفهمْكِ ولم نعذُرْكِ، وأهديناك مكان الوردة سكيناً. نعترف أمام الله العادل، بأنّْا جرحناك وأتعبناك، بأنّْا أحرقناك وأبكيناكِ، وحمّلناك أيا بيروت معاصينا”.
لا أدري إنْ كُنّا فعلاً نستطيع أن نردّد معه “الآن عرفنا ماذا اقترفت أيدينا”. هل فعلاً أدركنا جميعاً ماذا اقترفت أيدينا؟ ماذا يبقى من وجه لبنان المشرق الجميل إن سقَطَت الخدمات التربويّة، وانهارَت الخدمات الماليّة، وباتت الخدمات السياحيّة من دون إقبالٍ عليها، وضعُفَت الخدمات الطبّية؟ ببساطة لا يعود لبنانُ لبنان الذي عرفناه. ماذا يبقى؟ لا أدري.
سمير قسطنطين
أحدث التعليقات