مرض السرطان!!! ذاك الخبيث! المرض الذي لم يجرؤ أجدادُنا على تسميتِه لفظاً. كانوا يقولون عن مريض السرطان: “معو من هَيْديك المرض”. في عالم الـ Oncology، عالم الوقاية من الأورام وتحديداً السرطان، وتشخيصِها وعلاجها، يستخدم الطب نظامَ تصنيفٍ لدرجة الورم. هذا النظام، الذي ينقسم إلى أربع درجات تتدرّج صعوداً في الخطورة وصعوبة العلاج، يُستخدم في تحديد درجة شذوذ الخلايا الورميّة بالنسيج المتسرطن، مقارنةً بالخلايا الطبيعيّة. ويُستخدم تعبير “التمايز” أي الـ Differentiation لوصف مدى التماثل بينهما في المظهر المجهري، وبالتالي في أداء الوظائف. من هنا فإنّ تحديد درجة التمايز يُعطي فكرةً واضحة عن السلوك الحيويّ للخلايا الورميّة من حيث شدّتها وسرعة نشاطها، أو ما يمكن تسميته بالعدوانيّة أو الشراسة.
وفيما تكون الخلايا الورميّة بالمستوى الأول واضحةَ التمايز، وتُعتبر الأقل شراسة نسبة إلى سلوكها الحيوي، وفى هذه الحال يُعدُّ الورم من الدرجة الدنيا، يكون التمايز في الدرجة الثانية واضحاً بشكل معتدل، وهنا يُعدُّ الورم من الدرجة المتوسّطة أو المعتدلة. في الدرجة الثالثة، يكون التمايز قليل الوضوح، وهنا يُعدُّ الورم من الدرجة العليا. في الدرجة الرابعة، تكون الخلايا غير متمايزة إطلاقاً، ويُعدُّ الورم من الدرجة العليا. هذه الدرجة الرابعة تُسمّى الـ Métastase. الكلُّ يعرف أنّ هذه المرحلة التي تمثّل مرحلة انتشار المرض في كلِّ الجسم هي الأكثر خطورة. وعلى رغم أنّ مريض السرطان بالدرجة الرابعة قد يتعايش مع المرض لفترة قد تمتدّ لسنوات، إلّا أنّ الشفاء منه يصبح شبه مستحيل.
مرض الفساد في لبنان، لا يقلّ شراسةً عن مرض السرطان في درجته الرابعة. لقد انتشر المرض في كلِّ الجسم اللبناني. إنتشرَ في تلزيم المشاريع خصوصاً، أكان ذلك في تلزيم مشاريع الطاقة أم تزفيت الطرقات وإنشاء البنى التحتيّة، أو تلزيم المنطقة الحرّة في المطار، وغيرها وغيرها. وانتشر سرطان الفساد في مناطق أخرى من الجسم اللبناني مثل التوظيفات في القطاع العام، وطريقة تسيير الأمور اليوميّة في دوائر الدولة، وفي ديناميكيّة العلاقة الملتبسة أبداً بين مصرف لبنان والمصارف. باختصار، الفساد نخر الجسم اللبناني من رأسه حتّى أخمص قدميه. ويحزنني القول أنّ سكوت القضاء كلّ هذه السنوات يجعلني أسأل نفسي عن نزاهته أو في الحدّ الأدنى عن قدرته على العلاج.
لا شكّ في أنّ الفساد في لبنان تدرّجَ صعوداً. فمن موظّفٍ صغير يتلقّى رشوةً صغيرةً لتسييرِ معاملةٍ في دائرةٍ رسميّة، تدرّج الفساد صعوداً فاحتلّ ساحات الأملاك البحريّة، وطيّر المساعدات العربيّة والدوليّة من دون رادعٍ أو واعزٍ، ووضع الأخطبوط المالي يده على التلزيمات وهي بمليارات الدولارات كلّ سنة، وكثُرَت الصناديق والمجالس فكانت معملاً للفساد تدور ماكيناته أربعاً وعشرين ساعة في اليوم.
لا أدري إن كان أيّ نوعٍ من أنواع علاج سرطان الفساد في لبنان يكفي أو يشفي. كلّ العلاجات الممكنة، أكانت عن طريق الجراحة، أم العلاج الكيميائي، أم العلاج الإشعاعي، أم العلاج المناعي، مروراً بالعلاج عبر استخدام الأجسام المضادة وحيدة النسيلة أو وسائل أخرى، تبدو وكأنّها قد فات وقتها. تأخّرنا كثيراً لنبدأ. المريض تدرّج صعوداً في عشق جسمه للمرض الخبيث. أهلُه، سياسيّوه، كانوا رفضوا التشخيص المبكر، والعلاج في المرحلة الأوليّة للمرض. رفضَ أهلُ المريض إدخالَه إلى المستشفى. أرادوا أن يعالجوه لكن على طريقتهم. كان يهمّهم أن يموت لكي يرثوه. استعجلوا موته. ساهموا فيه. كانوا يرونه في كلّ يومٍ ينحُل أمام عيونهم. لعبوا لعبة التمسكُن والحسرة أمام أبنائه، أبناء الوطن “المعتّرين”. حاولوا إقناع أولاده الحقيقيّين “إنّو مش نحنا … هنّي”. قالوا لهم: “هيدي أميركا بدّا تفقّرنا”. أنا لا أقول أنّ أميركا تحبُّنا. لكن هل قالت أميركا لفلان وعلتان أن يسرقا من خزينة الدولة أيضاً؟ وإذا قالت أميركا لهم ذلك، وهُم أطاعوا ونفّذوا، ألا يكونوا عملاء؟ ظنّ السياسيّون في لبنان أنّهم يستطيعون أن يؤخّروا موعد إعلان الوفاة اعتقاداً منهم أنّ لبنان قد يكون قادراً على منح أهله المزيد من الإرث الذي لم يكتشفوه بعد. لكن لبنان في طريقه إلى الموت. أوحَت لهم حاكميّة مصرف لبنان أنّ لبنان بخير والودائع بخير والليرة بخير!!! لكنّ لبنان بات في موتٍ سريري ليس أكثر. قلبُه، الذي هو قلوب الناس الطيّبين، ما زال ينبض حُبّاً، لكنّ وعيَه انتهى. العلاج عبر الصدمات الكهربائيّة من مثل المفاوضات بتذاكي مع صندوق النقد الدولي، لم تعد تنفع.
سياسيّو لبنان غائبون عن الوعي. لم يصدّقوا بعد أنّ الجسد النحيل لم يعد يقوى على المقاومة والاستمرار. ما زالوا مشغولين بالاتّهامات وإن أصبحت “بايخة”. عندما يتكلّمون في مؤتمراتهم الصحافيّة، وفي مداخلاتهم في مجلس النواب، وفي الـ Talk Shows، يمكنكَ أن تلاحظ وبسرعة ضعفهم. كيف أصبحوا Defensive بين ليلةٍ وضحاها. في عيونِهم هروبٌ يغلّفونه بالوقاحة. لكنّ وقاحتَهم باتت ضعيفة. لذا لا أعتقد أنّ أيّ علاجٍ يفيد بعد الآن. صحيحٌ أنّ هناك ربّما محاولات مشكورة من الحكومة، لكنّ الحكومةَ مطوّقةٌ من أهل بيتِها وهي لا تُحسَد على ما هي فيه. صحيحٌ أنّ الإدّعاء العام المالي يتحرّك في اتّجاهاتٍ عدّة وليس آخرها عبر استدعاء عشرات المقاولين للتحقيق ومن بينهم جهاد العرب وداني خوري، لكنّنا لم نرَ حتّى الآن فاسداً واحداً وراء القضبان. وسؤالي للمدّعي العام المالي وبكلِّ احترام هو: أين كان الإدّعاء العام المالي كلّ هذه السنوات حين كانت “الشمس شارقة والناس قاشعة”؟
قبل ماية عام، كان إعلان ولادة لبنان الكبير. أعتقد أنّ لبنان متّجهٌ إلى الوفاة. إعلانُ وفاته سيترافق مع مراسم دفنٍ لن يحضرَها الناس الطيّبون. وأعتقد أنّ السياسيّين سيغيبون أيضاً لكن لأسبابٍ أُخرى.
الوفاة عند المؤمنين هي انتقالٌ، هي عبورٌ ليس إلّا. هي رحلةٌ تتم في لحظةٍ في طرفة عينٍ من دنيا الألم إلى عالمٍ آخر يحكمه الرجاء. لا يمكن لهذا الوضع أن يستمرّ طويلاً. أعتقد أنّ السياسيّين أدركوا أنّهم فشلوا، وأنّ النهاية باتت على قابِ قوسين. يحاولون أن يعيّشوا لبنان على الـ Machines، لكنّه لن يستمرّ طويلاً. لن يطول الوقت كثيراً أمام التغيير وبالطرق الدستوريّة، وتحديداً عبر الانتخابات النيابيّة، عساها تكون مبكرة. الناس ستقول كلمتَها. الموت حاصلٌ، والقيامة آتيةٌ ولا أعتقد أنّهما سيتأخّران.
كيف سيكون لبنان القائم من الموت؟ كيف سيكون شكل لبنان الجديد؟ للبحث صلة.
سمير قسطنطين
أحدث التعليقات