عندما تحاسبُ الناس هذه الحكومة على كلِّ خطايا الماضي، فإنّ الناسَ تظلمُ الحكومة. لا يمكنكَ تحميلَ حكومةٍ عمرُها أربعة أشهر مسؤوليّة كلِّ الموبقات التي ارتكبَها سياسيّو لبنان منذ ثلاثة عقود. لكن هذه الحكومة مُلامة لأسبابٍ أُخرى، وعلى رأس لائحة الأسباب، التردُّد والتقلقل. هذا الأمر لا علاقة مباشرةً له بالفساد الذي حصل قبل تشكيلِها. هذا يعكس شخصّيةً جماعيّةً لها وهويّة وموقفاً داخليّاً أي Attitude.
الحكومة بدَت متردّدةً حتّى قبل أن تولد. كانت الخطّة ألا تضمَّ الحكومةُ حزبيّين أو وزراء “مربوطين” عند سياسيّين. تردّد رئيسُها المكلّف آنذاك، فوُلِدَت حكومةُ تقنيّين يمثّلون سياسيّين. هذا الأمر خذلَ كثيرين من الذين راهنوا على ولادة حكومة تكنوقراط. لكن ما حدثَ في الأيّام الماية الأولى من عهدها يقلقني جدّاً خصوصاً أنّه تكرّر في الفترة المذكورة أكثر من مرّة وأظهرها حكومةً ذات شخصيّة جماعيّة متردّدة.
الحكومة ستُحيل إلى مجلس النوّاب مشروع قانون الـ Haircut. لا تلبَث الحكومةُ أن تتردّد في الإحالة. توقّف الكلام عن كلّ الموضوع.
الحكومة تتحمّس لقانون الـ Capital Control. تخرُجُ أصواتٌ إلى العلن تعارضُ المشروع. الأصواتُ تشبه أصواتَ بعض الحكومة. تتردّد هذه الأخيرة ويتوقّف الكلام عن الـ Capital Control.
الحكومة تأخذ قراراً بخصوص معامل إنتاج الطاقة. معمل سلعاتا لم يكنْ على الخارطة عندما قرّرت الحكومة اللبنانيّة أيّة معامل تريد. تتردّد الحكومة في تنفيذ القرار. يدخلُ سلعاتا على الخط من جديد. تُغيِّر الحكومة رأيَها.
في نهاية جلسةٍ لمجلس النوّاب عُقِدَت في الأونيسكو خرج الرئيس حسّان دياب ليتلوَ مضبطةَ اتّهامٍ بحقِّ حاكمِ مصرف لبنان رياض سلامة. كان واضحاً لكثيرين أنّ حاكماً جديداً للمصرف المركزي سيُعلَن عنه في وقتٍ قريب. لكنّ الحكومة تردّدَت وتراجَعَت عن خطّتها. منذ ذلك الحين بدأ الرئيس دياب علاقةَ مساكنَةٍ مع الحاكم.
الحكومة تريدُ تحجيمَ القطاعِ المصرفي الحالي وتخفيضَ عدد المصارف إلى النصف. كذلك تريد الحكومة فتح المجال لتأسيس خمسة مصارف جديدة رأسُمالها Fresh، ممّا يستقطب مليار دولارٍ أميركي إلى لبنان. يبدو أنّ الخطوةَ كانت دعسةً ناقصة. توقّف الحديث عن الموضوع برمّته بعدما تبيّنَ أنّ تطبيقَه صعبٌ وأنّ متموّلاً واحداً من الخارج متحمّساً للاستثمار في لبنان لم يوجد.
قبل أيّام ملأَ حديثُ التغييرِ الحكومي الأجواء. البعض تحدّث عن تعديلٍ حكومي وليس عن تغيير. كان كلامٌ عن استقطاب عسكريّين يوحون بالثقة إلى الحكومة. فجأةً توقّفَ الحديث. تردّدت الحكومة في مكانٍ ما. تعثّر التعديل الحكومي. صُرِفَ النظر عنه.
قبل أسابيع صدحَ صوتُ الحكومةِ بهدف ضبط الإنفاق الفضفاض في مصرف لبنان. رأت الحكومة أنّ نائبَيْن إثنَيْن فقط لحاكم مصرف لبنان يكفيان للقيام بالمهمّة. كان الشعورُ العام أنّ تعيينَ نائبَيْن جديدَيْن للحاكم باتَ على قابِ قوسَيْن أو أدنى. تردّدت الحكومة. سقطَ المشروع. توقّفَ الكلامُ عنه.
مشروع التعيينات الإداريّة في القطاع العام موضوعٌ على نار حامية منذ شهر آذار. منذ ذلك الحين والحكومة اللبنانية تستعدُّ للبدء بالتعيينات الإدارية في وظائف الفئة الأولى الشاغرة في الإدارات والمؤسّسات العامّة. وقد بلغ عدد المواقع الشاغرة 62 وظيفة. لكنّ مسيرةَ التعييناتِ تشبِهُ سيرَ السلحفاة. كأنّ الحكومةَ تردّدت في مكانٍ ما في اتّخاذ القرارات وتراجَعَت وإن يبدو هذا التراجع تكتيّاً في الوقت الحاضر.
مشروع التشكيلات القضائيّة لم يكن أفضل حالاً. مجلس القضاء الأعلى أصدرَ التشكيلات المُقترحة. الحكومة استَلَمَت لائحةَ الأسماء والمواقع من مجلس القضاء الأعلى. تردّدت في بداية الأمر. صدرَ كلامٌ عن وزيرتَيْن فيها عن الرغبةِ في التعديل. في القضاء العسكري، نجَحَت وزيرةُ الدفاع في تسويقِ التعديل. لكنّ وزيرةَ العدلِ لم تنجحْ في تغيير رأي مجلس القضاء الأعلى في المسائل الأخرى. التردُّد ما زال يؤخّر صدور التعديلات بمرسومٍ جمهوري وإن كان رئيسُ الحكومة قد وقّع المرسوم من جهتِه قبل أيّام.
الحكومة كانت على تماسٍ مع الناس في الموضوع التربوي. إنتظرَ الناس منها قرارات تتعلّق بالعام الدراسي، متى ينتهي وكيف ينتهي. أصدرت الحكومة قراراتٍ أضطُرّت لاحقاً إلى تعديلها أو شرحها أكثر من مرّة فيما الغموض ما زال موجوداً. إنتظر الناس منها موقفاً أو قراراً يتعلّق بالأقساط يشعر فيه الجميع، إدارات مدارس وأهل، أنّهم لم يُغْبَنوا. تردّدت الحكومة كثيراً. أخذَت كلّ مدرسة قرارَها منفردةً، وفي كثيرٍ من الحالات “فاتوا الناس ببعضن”.
الحكومةُ حزَمَت أمرَها لإقفال المعابر غير الشرعيّة بين لبنان وسوريّا. أرسَلَت وحداتٍ من الجيش لتعزيز ضبط التهريب. فجأةً تردّدَت الحكومةُ في تطبيقِ قرارِها. كلُّنا رأينا على “السوشال ميديا” صهاريج مازوت تعبرُ إلى لبنان فارغةً بهدف التحميل والعودة إلى سوريا. تردّدَت الحكومة وتقَلْقَلَت في تنفيذ ما وَعَدَت به.
باختصار، الحكومة متردّدة في مسائل كثيرة. ما سبقَ ورودُه ليس أكثر من إحدى عشرة عيّنة. هذا التردُّد يؤذيها. يظهرُها بمظهرٍ لا يُفيدُها أن تظهرَ فيه خصوصاً في وضع بلدٍ موجوعٍ في كلّ مواضع جسمه.
التردُّد والتقلقُل في الخطوات له أكثر من سببٍ في الحياة. هناك سببان أساسيّان للتردُّد. السبب الأول نفسي. بعض الأشخاص يعانون من الخوف والحذر الزائدَيْن عن الّلزوم من الفشل أو الوقوع في الخطأ فيتردّدون أو يتقلقلون. السبب الثاني يرجع إلى عدم ثقة الشخص المتردِّد في نفسه، وعدم تحمِّله مسؤوليّة ذاته بشكل كافٍ. في السياسة، يمكنكَ أن تضيفَ سبباً ثالثاً هو الرضوخ لضغوطٍ سياسيّة أي من أقوياء. صحيحٌ أنّ التردّدَ صفةٌ تلازم معظم الأشخاص بدرجات متفاوتة، وقد تمنعُهم من وصولهم إلى الهدف الذي يسعون وراءه، لكنّ الأخطرَ في كلّ ما تقدّم يبقى أنّ المتردِّد يخذل نفسَه ومَن حوله.
لم تُصدّق هذه الحكومة، أنّها على ضعفها، كانت الأقوى بين كلّ الحكومات التي سبَقتْها، إذ إنّ أحداً غير قادر على ثني يدِها أو إيقاف عملِها إن هي أرادَت غير ذلك وحَسَمَت أمرَها. كلُّ الأقوياء في البلد كانوا بحاجةٍ إليها، وما زالوا باعتقادي. هذه الحكومة أنقذَتهم، حَفَظَت ماءَ الوجهِ لهم. هي أقوى منهم وإنْ كانوا هُم الذين أنجبوها. لكنّها لم تُصدّق نفسها. “ما قَبَضِتْ حالا جَدْ”.
في وضع حكومتِنا، لعلَّ الوقتَ الذي نقول فيه أنّ الحكومةَ قد خسرت فرصتَها قد اقترب. لكنّ هذه الخسارة ستكون الخسارة الأقلّ إيلاماً أمام الخسارات المتعاقبة والموجِعة الآتية.
سمير قسطنطين
أحدث التعليقات