قد ينظر البعض إلى من يتبوأون المناصب على أنّهم أقوياء. وقد يعتقد البعض أنّ الشيعة أقوياء بفضل الديمغرافيا والسلاح ودعم إيران، وأنّ السنّة أقوياء بفضل الأعداد وصلاحيّات رئاسة الحكومة ودعم السعوديّة أو تركيا، أو أنّ المسيحيّين أقوياء بسبب حاجة الحليف إليهم خصوصاً في هذه المرحلة. لكنّي أعتقد، وعلى خلاف هذا المفهوم، أنّ الكلَّ ضعيفٌ وأنّ الوهنَ يضرب الرئاسات والطوائف على حدّ سواء.

خُذ مثلاً سنّة لبنان. بحرٌ هادرٌ من السنّة يحيط بهم من إندونيسيا إلى الطريق الجديدة. إسألهم، تكلّمْ معهم، حاولْ أن تستمع إلى حقيقة مشاعرهم. هُم قلقون، خائفون، في قلوبهم مرارة، يتحدّثون وكأنّهم أقلّية في بلدٍ ظالم لهم! في يدهِم صلاحيّات واسعة، ليس أقلّها صلاحيّات رئاسة الحكومة، وإلى جانبهم مرسومُ تجنيسٍ من عهد الرئيس الياس الهراوي لا يُستهان بما جاء فيه، وسوليدير نجمةٌ مضيئةٌ تدور استثماراتها في فلكهم السياسي أيضاً. ومع ذلك يشعرون بالضعف. وأنا أعتقد أنّ السنّة في العالم العربي، وبشكلٍ عام، لا يشعرون الشعورَ نفسَه الذي كان لديهم عندما كانت القوميّة العربيّة في ذروة لهيبِها، وكان عبد الناصر وأبو عمّار وسواهما قادةً فاعلين في هذا القسم من العالم.

خُذ مثلاً الشيعة. كثيرون في لبنان يعتبرون أنّ الشيعةَ أقوياء و”نيّالهن”. يعزون ذلك إلى أعداد السكّان وإلى توفّر السلاح والقدرة على الإشهار به. لكنّي أعتقد أنّ الشيعة ليسوا أقوياء على عكس ما يعتقد اللبنانيّون وكما يظنُّ جمهور الثنائي الشيعي. القويُّ ليس مضطرّاً إلى النزول إلى الشارع. الضعيف ينزل. إذا نزل الناس إلى الشارع في 17 تشرين، فإنّما هُم فعلوا ذلك لأنّهم ضعفاء، وليس لأنّهم أقوياء. نزل السود إلى الشارع في أميركا قبل أسبوعين. فعلوا ذلك لأنّهم ضعفاء. الأب القويُّ لا يوحي لأولاده بقدرته وتفوّقه. أولادُه يدركون أنّ والدَهم قوي من دون أيّ كلمة. قد تقول لي “أنتَ تعيش في المكسيك”! قد تريد أن تلفتَ نظري إلى أنّ للشيعةِ سلاحاً هو سلاح المقاومة وأنّ إسرائيل ترتعد منه. وأنا أقول لكَ أنّ هذا الكلام صحيحٌ مئة في المئة، وأنّ هذه القوّة مفخرةٌ للبنان. لكنّ السلاحَ قويٌّ لأنّه سلاح المقاومة. هو ليس قويّاً بالمطلق وفي كلّ الظروف ومع كلّ الناس. لذا ترى المقاومةَ تمتنعُ عن استعمال سلاحِها بالمعنى الواسع منذ 7 أيّار قبل إثنتي عشرة سنة. قد تخالفني الرأي، لا بأس. هذا ينعش النقاش. ألا يعلم اللبنانيّون أنّ حزبَ الله، إذا أراد، قادرٌ على الانتشار عسكريّاً في معظم مناطق لبنان في وقت قصيرٍ نسبيّاً؟ بلى وألف بلى. لماذا لا يفعلها إذاً؟ لأنّه يعرف أنّ في ذلك مقتلةً له. في حقبة الستّينات والسبعينات والثمانينات من القرن الماضي، تبارى الجبّاران في سباق تسلّحٍ غير مسبوق. الإتّحاد السوفياتي كان أكثر استعداداً من الولايات المتّحدة لاستعمال سلاحه النووي إذا دَعَت الحاجة. التوتّر الذي حصل حول كوبا في عهد جون كينيدي كان دليلاً صارخاً. لكن عندما تحوّل الاتّحاد السوفياتي من الشيوعيّة إلى الحريّة، ماذا نفَعَه السلاح؟ لا شيء. كيف استفاد الشيوعيّون من سلاح الدولة العظمى؟ لم يستفيدوا. ديناميكيّة العلاقات في الداخل هي غيرها مع الخارج. حزب الله قويٌّ وقويٌّ جدّاً عندما يحارب إسرائيل. لكنّ قوّةَ الحزب في الداخل محدودة. في الداخل هو يذهب إلى المعادلة اللبنانيّة، يهادن، يتحاور مع الحلفاء، “ما بيقطش مع الخصوم”، يحاول أن يبقى من دون أعداء. لا يريد عداوات. حتّى مع “بيت الحريري” لا يريدها. وحتّى مع وليد جنبلاط لا يريدها. ماذا يعني ذلك؟ يعني شيئاً واحداً، أنّ السلاح لا يفيد في حلحلة عقد الداخل. لذا ترى حزب الله لا “يكسر” مع الرئيس نبيه برّي. في حملة حزب الله على الفساد، هو يختلف مع الرئيس برّي ربّما على إدارة الحملة ضدّ الفساد، لكنّه لا يحتمل طلاقاً شيعيّاً – شيعيّاً. في خلافه مع التيّار الوطني الحر حول موضوع الفساد أيضاً ومواضيع أخرى كالفديراليّة، لا يذهب الحزب إلى آخر الطريق. هو بحاجةٍ إلى حليفٍ مسيحي بغضِّ النظر عن حجمِه عدديّاً ونسبيّاً. القويُّ لا يلتفت إلى الأمور هكذا. الحزب ينظر إليها بهذه الطريقة. السبب؟ هو ضعيف أيضاً في كلّ مكان يبعد عن الحدود الجنوبيّة، وفي أيّة موقعة لا تكون إسرائيل فيها العدو. الشيعة إذاً ضعفاء أيضاً وإن كان ضعفُهم من النوع الذي لا يلتقطه المجهر بسهولة.

المسيحيّون ضعفاء أيضاً. في مرّاتٍ كثيرة وخصوصاً قبل الـ 2005 واغتيال الرئيس رفيق الحريري وانسحاب الجيش السوري، كانوا يستجدون مواقعَهم استجداءً. القوي لا يستجدي. حتّى الآن، قوّتهم هي في تحالفاتهم. هي قوّة ليست Innate. هي قوّة مكتَسَبَة. المسيحيّون روّادٌ في التربية، في المدارس والجامعات. ماذا أعطاهم ذلك على مستوى القرار التربوي الوطني في لبنان؟ لا شيء يُذكر. المسيحيّون كانوا أوائل الأطبّاء في لبنان، وهُم الذين فتحوا أولى كلّيات الطب في البلد. لكن ماذا أعطاهم هذا على صعيد السياسة الطبّية والصحّية للدولة أكثر مما أعطى سواهم؟ لا شيء. المسيحيّون هُم أوّل من فتح المصارف وأداروها في لبنان. حتّى المصارف التي تغيّر مذهب رأسمالها، أبقَت في الواجهة وجوهاً مسيحيّة. ماذا أعطاهم ذلك على صعيد إدارة مال الدولة؟ لا شيء. الماليّة كانت في معظم الأوقات إمّا مع تيّار المستقبل وإمّا مع حركة أمل. المسيحيّون أيضاً ضعفاء.

هذا عن المذاهب، فماذا عن الرئاسات؟ في الفترة الأخيرة سمعنا كثيراً عن الرئيس القوي، ولبنان القوي، والعهد القوي. أنا شخصيّاً لا أعتقد أنّ الرئاسة الأولى قويّة. الرئيس القوي غير مضطرٍّ لخوض معركةٍ عند كلّ تعيينٍ أكان ذلك في القضاء أم في الإدارة العامّة. والرئيس القويّ ليس مضطرّاً لأن يرمي بكلّ ثقله خلف تعديل قرارٍ صادرٍ عن مجلس الوزراء، أو من أجل الدفع باتّجاه قرارٍ سيصدر.

رئيس مجلس النوّاب هو الآخر ليس قويّاً. في الفترة الأخيرة حاول الرئيس نبيه برّي وبكلّ قوّته الحصول على أغلبيّةٍ نيابيّة مطلوبة لإقرار قانون العفو. لم ينجح. نادى الرئيس برّي مرّات عدّة بإقرار قانونٍ انتخابيٍّ خارج القيد الطائفي يعتمد لبنان دائرةً إنتخابيّة واحدة. حتّى الآن لم يلقَ الطرح أيّ تأييدٍ علنيٍّ من أيّ جهة فاعلة. الرئيس برّي معروفٌ برغبتِه الكبيرة بإقرار قانون إلغاء الطائفيّة السياسيّة. منذ التسعينات، وهو ينادي بذلك. لم يفلحْ بتحويل رغبتِه إلى قانون. إذا كانت القوّة تُقاس بقدرة زعيمٍ ما على توظيف مناصرين في القطاع العام، لعلّه يمكننا رؤية القوّة هناك. لكن على مستوى الـ Macro-، Management، الرئيس برّي غير قادرٍ على الظهور بمظهر القوي أو الأقوى.

رئيس الحكومة ليس قويّاً. في عزّ الحريريّة السياسيّة، وزمن السنيّة السياسيّة التي تَلَت المارونيّة السياسيّة وسبَقَت الشيعيّة السياسيّة، لم يستطع الرئيس سعد الحريري أن يكون قويّاً. هو لم يُرِد في البداية الرئيس ميشال عون رئيساً. عاد وقبل بذلك. هو لم يرضَ بتوزير الوزير السابق جبران باسيل بسبب رسوبه في الانتخابات النيابيّة. عاد وقبل بذلك. هو أصرّ على أن تكون وزارة المال من حصّته. لم يكن له ما أُريد. إشترط للعودة إلى السراي الكبير القبول بحكومةٍ من دون سياسيّين. بقي خارج السراي الحكومي. وماذا عن الرئيس الحالي للحكومة؟ السنّة أنفسهم يعتبرون الرئيس حسّان دياب متنازلاً عن صلاحيّات رئاسة الحكومة. هذه الاتّهامات ليست بالضرورة صحيحة. قيلت قبلاً بحقّ الرئيس سعد الحريري ومن قِبَل الأشخاص أنفسهم.

باختصار الكلّ ضعيف. الشيعة ضعفاء، السنّة ضعفاء، المسيحيّون ضعفاء. الرئاسات الأولى والثانية والثالثة ضعيفة. المحزن المبكي أنّ الكلّ ضعيف من دون أن يكون الدستور هو القوي، ومن دون أن تكون سيادة القانون هي القوّة الحقيقيّة. لذا نرى الفوضى والعبثيّة الحاصلتَيْن هذه الأيّام.

في هذا الضعف المشترك والعام للمذاهب وناسِها، أودُّ أن أقول أنّ هكذا أوضاع غالباً ما لا تدوم طويلاً. القيادات السياسيّة التي مشى خلفها الناس لعقودٍ من الزمن أمامها خيارٌ واحد وهو أن تمشي هي الآن خلف الناس، وأن تعترف أنّ الناس تغيّرَت وأنّها لم تعُد قادرة على السير خلف القيادات من دون شروط كما كانت تفعل. مصلحةُ السياسيّين تقضي بأن يصغوا للناس. لم يخطر ببال قسمٍ من القادة أنّ الناس ستقول “لا” في يوم من الأيّام، لكنّها قالت. هؤلاء لم يصدّقوا أنّ الفرصة التي أعطاهم إيّاها الناس ليصلحوا البلد قد انتَهَت. أنهاها الخوف من الجوع في 17 تشرين، فكم بالحري الآن والجوع قد بدأ يستوطن الساحة. بعض القادة يراهن على قدرته على تشويه حركة الناس عبر تطييفها ومذهبتها وإدخال عنصر الشغب إليها، لكن حركة التاريخ أقوى منّا كلّنا. خلاص القادة المُمسكين بالأمر يقضي بأن يعودوا خطوةً إلى الوراء، وأن يحتضنوا مطالب الناس المعيشيّة، ويمشوا فيها إلى الأمام. هُم أمام خيارٍ من خيارَين: فإمّا التساوي في الضعف أمام الدستور ليصبح تطبيقُه هو القوّة والمناعة الوطنيّة، وإمّا التساوي في الضعف أمام بعضنا البعض، فيصبحَ اللجوءُ إلى الشارع أو إلى الانهيار هو الأمر الذي سيلي.

سمير قسطنطين