يبذل الناس جهداً كبيراً هذه الأيّام ليبرهنوا فسادَ السلطة السياسيّة مجتمعةً. ويُوَاجَه الناس بسيلٍ من الإتّهامات من قِبَل السلطة ومناصريها تتراوح ما بين الإفتراء على السياسيّين والعمالة لإسرائيل، مروراً بالسقوط ضحيّة المُضلِّلين.

كلُّ دول العالم، وخصوصاً تلك التي ساعَدَت لبنان عبر التاريخ تحجمُ الآن عن مدِّ يد العون لنا بسبب عدم الشفافيّة الماليّة لكي لا أقول الفساد. والسلطة السياسيّة في لبنان ما زالت تتّهم صندوق النقد الدولي بأنّه هو الذي يريد تجويع اللبنانيّين (نحنا طلبنا مساعدتو على فوقا)، وتتّهم أميركا بأنّها وراء صعود الدولار. تتصرّف السلطة وكأنّ أميركا هي التي طَلَبَت منّا أن نسرقَ المال العام وأن نكدّس الثروات! وإذا أَرَدْتُ أن أُصدّق أنّ أميركا لا تريد لنا الخيرَ، فإنّي أسأل: لماذا تُحجم فرنسا، وهي صديقة كلّ اللبنانيين منذ عقودٍ وعقود، عن مساعدتنا إذاً؟ أليس من أجل السببِ نفسِه وهو الفساد؟

مع ذلك، فقد قرّرتُ اليوم أن أفترضَ أنّ تهمةَ الفساد للطبقة السياسيّة في لبنان هي تُهمة باطلة، وأنّ المتظاهرين ظلموا السياسيّين. أُريد من كلّ قلبي أن أعتبر أنّ لا فساد موجوداً في لبنان، وأنّ لا فاسدين في البلد، وأنّ الفسادَ إذا وُجِد فهو من صنعِ أشباحٍ. وأُريد أن أُحسنَ الظنَّ في كلّ من تعاقبَ على تولّي السلطة في لبنان منذ ثلاثة عقود، وأن أقولَ بالتالي أنّنا كمواطنين اخترنا للسلطة من خلال الانتخابات النيابيّة أنزهَ السياسيّين وأفضل رجال الدولة، وأكثرهُم تحسُّساً بقضايا الناس. “منيح هيك”؟

أمّا الآن وقَدْ قُلتُ هذا الكلام، فإنّي أُريد أن أقول ومن كلّ القلب، أنّ تُهمة الفساد، إذا صعُبَ برهانها في القضاء وخارج القضاء، فإنّ العجزَ عن إدارة شؤون الدولة لا يصعبُ برهانه. مَنْ في لبنان، أكان في الموالاة أم في المعارضة، لا يعترف أنّ السياسيّين فشلوا في إدارة الدولة منذ سنين؟ لا أحد. من في لبنان لا يعرف أنّ ما وصل إليه الوضع الاقتصاديُّ والمالي هو أسوأ ما وصل إليه الوضع خلال العقود الماضية؟ لا أحد. أُريد أن أفترض أنّ لا تهمة بالفساد على أحدٍ في وطني. لكنّي في الوقتِ نفسه أُريد أن أسأل: هل في لبنان من يعتبر أنّ السلطة أحسَنَتْ إدارة ملفّ الكهرباء من استيراد الفيول المغشوش إلى إقامة المعامل إلى توفير الطاقة الكهربائيّة، أو نجحَت في إدارة ملفّ تزفيت الطرقات وصيانتها، أو أنجَزَت ملفّ المياه والسدود، أو ملفّ الضمان الاجتماعي، أو ملفّ سعر صرف الليرة اللبنانيّة في مقابل العملات الأجنبيّة، أو ملفّ إحتياط العملات الصعبة في مصرف لبنان، أو ملف الفلتان الأمني في مناطق عدّة حيث تحصل اشتباكات بين مواطنين لبنانييّن، أو ملف علاقة وزارة الصحّة بالمستشفيات الخاصّة، أو ملف عجقة السير، أو ملف التهريب على الحدود اللبنانيّة – السوريّة، أو ملف السجناء الإسلاميّين غير المحكومين، أو ملفّ تحصين القضاء وزيادة مناعته، أو ملف تشريع زراعة الحشيشة، أو ملف العفو العام، وغيرها وغيرها من الملفّات؟ لا أعتقد أنّ عاقلاً واحداً في لبنان راضٍ عن طريقة إدارة الدولة لهذه الملفّات.

سمّوا لي ملفّاً واحداً أحسَنَتْ السلطة إدارتَه. ملفٌّ واحدٌ يكفيني، صدّقوني. لم أجد ملفّاً واحداً يثلج القلب ويبهج النفس ويُعطي أملاً للناس. هل لاحظتم أنّي في كلّ ما أوردتُ لم أتحدّث عن الفساد ولا أتّهمتُ السلطة به؟ هل انتبَهتُم أنّ كلامي خلا من أيّ تهمةٍ بالفساد لأيٍّ طرف أو شخص كان؟ عظيم. ماذا يعني ذلك؟

أشخاصُ الدولةِ نظيفو الكف، لا يرتشون ولا يفرّطون بقرشٍ واحد من خزينة الدولة. صدّقوني أنّي أُريد أن أعطيهم The Benefit of the Doubt. لكن ماذا عن العجز والفشل؟ أليسَ العجزُ في كلّ دول العالم سبباً للإستقالة؟ ألا يكفي العجز الحاصل عندنا ليدفعَ المسؤولين عن شأن إدارة حياة الناس لكي يتنحّوا؟ ألم يأخذوا فرصتهم لفعل شيء جيّدٍ للناس؟ ألم يستوفوا حقّهم كاملاً في أخذ الوقت الكافي لتحقيق إنجازاتٍ حقيقيّة؟ ماذا ينتظرون بعد؟ أشخاصٌ أتوا إلى الحكم. باعوا الناس أحلاماً. آمنّا بها وصدّقناهم. إنتخبناهم مرّاتٍ متتالية بسبب مخاوفنا المذهبيّة. خابَتْ ظنوننا. تكسّرَت أحلامنا.

صدّقوني أنّنا لا نُريد أن نحاكمَ أيّاً منكم. نحنُ متّفقون أنّكم غير فاسدين. لكن ألَسنا متّفقين أنّكم عاجزون؟ هل نحن وأنتم بحاجة إلى دليلٍ إضافي؟ إذا أردتم أن تكتبوا سيرةً جماعيّة موحّدة تُضمِّنوها إنجازاتكم، فإلى كم صفحةٍ تحتاجون؟ لا أعلم ماذا يسرّكم في البقاء في السلطة وأنتم لم تُحسنوا إدارة ملفٍّ أساسيٍّ واحد. أليس هذا سبباً كافياً لإجراء انتخاباتٍ نيابيّة مبكرة لإعادة إنتاجِ سلطةٍ سياسيّةٍ جديدة من شأنها أن تدير البلد؟

وأقول لكلّ الحزبيّين المتعاطفين مع هذا السياسي أو ذاك، وللمناصرين غير الحزبيّين: لكم الحق في أن تفكّروا بما شئتم، وأن تحبّوا من رغبتم من السياسيّين، وأن تقترعوا لمن ارتحتم له. هذا حقّكم. لكن أسألكم كمواطنين، إذ أنتم لستم فقط حزبيّين أو مناصرين: “ألا ترون أنّ الطبقة السياسيّة الحاكمة قد فشلَت بالكامل؟ وألا ترون أنّه من حقّكم أن يحكمَكم ويحكمَنا أشخاصٌ قادرون وفعّالون؟”.

إذا رغبنا في ذلك فهذا حقّنا كمواطنين، وإذا لم نرغب في ذلك، فهذا يعني أنّنا ممنونون للطبقة السياسيّة وأنّنا ما زلنا نأمل أنّهم سيُنجِزون.

تحضُرني كلمات العبقري ألبرت أينشتاين عندما كتب قائلاً:
Insanity is doing the same thing, over and over again, but expecting different results.
هذا الكلام يعني: “الجنون هو أن تعمل الأشياء نفسها مراراً وتكراراً متوقعاً نتائج مختلفة”.

سمير قسطنطين