في جعبة الرحابنة الذين لم يُنتِج الفنُّ اللبناني نظيراً لهم أعمالٌ خالدة ليس أقلّها فيلم “سفر برلك” الذي أنتجوه في العام 1966، ومسرحيّة “ناطورة المفاتيح” سنة 1972، ومسرحيّة “المحطّة” بعدها بسنة.

في “سفر برلك” كان لبنان يرزح تحت الاحتلال العثماني. ومن أجل إضعاف المقاومة الشعبيّة، صادر العثمانيّون كلّ القمح المخزّن عند الناس، كما أجبروا القادرين على العمل بـ “السّخرة” كتقطيع الحطب، في ظروف غاية في القسوة والاستبداد. لكن في ذلك الزمان، كان للمقاومة نكهةٌ، وللعنفوان طعمٌ، وللكلماتِ وقعٌ، وللوحدة الوطنية التي جسّدها “أبو أحمد” و”الحج نقولا” معنىً خاص.

“سفر برلك” يحاكي ما حدث في لبنان من حادثة اغتيال جوزف بو عاصي وبوسطة عين الرمّانة في نيسان من العام 1975 وحتّى أيّار الـ 2000 يوم تحرّرَ الوطن من الاحتلال الإسرائيلي. في هذه الفترة لم يبقَ محتلٌّ أو معتدٍ “ما بَلْ إيدو فينا”. فمن منظّمة التحرير الفلسطينيّة التي ضلّت طريق القدس وظنّتها طريق جونية وعيون السيمان، إلى الجيش السوري الذي قاتل الجيش اللبناني والمسيحييّن والسنّة. حتّى أنّ حزب الله لم يسلم منه، وحادثة “ثكنة فتح الله” في البسطة في شباط العام 1987 تشهد على مجزرة ذهب ضحيّتها 22 مقاتلاً من الحزب على يد الجيش السوري … إلى الإسرائيلي الذي اجتاحنا في الـ 1978 و1982، ودمّر قرانا في عملية “تصفية الحساب” في الـ 1993، و”عناقيد الغضب” في الـ 1996، إلى حرب تموز الشهيرة في الـ 2006.

بعد العام 2000 وانسحاب الجيش الإسرائيلي، ومن ثمّ انسحاب الجيش السوري في نيسان الـ 2005، وحتّى حلول 17 تشرين 2019، عاش اللبنانيّون سنوات في رحبانيّات “المحطّة”. كنّا جميعاً مثل تلك الفتاة المجهولة فيروز التي بدأت دورها بأغنية “ليالي الشمال الحزينة”، وهي تسأل “وصل التران”؟ سكّان “المحطّة” دغدغَتْ مخيّلاتهم أحلام الثراء. بدأ الحلم يشعِل المخيّلة ويتغلّب على الواقع. فبوجود محطّة “التران” ربّما يرتفع سعر الأرض ويتحقّق الثراء. مع ذلك بقي حلم السفر رفيقهم، حتّى ولو تأخّر القطار الذي لم يأتِ في البداية. لكنّ رئيس البلدية، نصري شمس الدين، افتتح المحطّة الوهميّة وبدأ أهل البلدة بالتوافد إلى المحطّة وشراء التذاكر وانتظار القطار. ألم يحصل كلّ ذلك معنا؟ ألَم نستثمر في الأرض والبناء وأعينُنا في الوقت نفسه على باسبور أجنبي؟ كان كثيرون يبنون هنا، وفي الوقت نفسه يحاولون الحصول على جواز سفرٍ كندي أو فرنسي أو أميركي أو أوسترالي. ألم نصدّق طوال هذه السنين أنّ الليرةَ بألف خير؟ ألم نأمل بإصلاحٍ للفساد وتغييرٍ في السلوكيّات العامّة؟ ألم نصدّق أنّ لبنان بات دولةً نفطيّة؟ أَلَم يفتتح الأقوياء عندنا مشاريع وهميّة تماماً كما فعل نصري شمس الدين؟ ألَمْ نكن مثل الأهالي الذين طالبوا رئيسَ البلديّة بحقوقٍ اقتصاديّة واجتماعيّة قائلين له: “أحسن شغله توعدهن … بشي خطه انمائية … بمدارس بالكهربا … وبالمَيّه توعدهن من عبكره … وبتنسى من عشية”؟ طالبناهم بالأوهام مبرّرين للكبار كلّ شيء.

لكنّ في مسرحيّة “المحطّة” – وكَمْ أنّ شبهَها كبير لمسرحيّات سياسيّينا – خابت الآمال. جاء القطار على غفلة. دقّت ساعة الرحيل من دون استئذان. أَلَمْ يحصل كلّ ذلك عندنا؟ رحلَت الودائع على غفلةٍ من الناس، وتراجعَتْ صحّة الليرة اللبنانيّة بشكلٍ دراماتيكي، وجاء قطار الـ Capital Control الفاقع، يجرّ وراءه “فاغونة” الـ Haircut المقنّع.

في “المحطّة” أسرع الكلّ إلى القطار لحجز أماكنهم وهكذا فعلنا نحن هنا علنّا نستطيع استلحاق لقمة العيش قبل الانهيار. “وردة” – فيروز – التي وحدَها لم تتمكّن من الحصول على تذكرة، بقيَتْ وحيدةً في فضاء المحطّة الخالي. ويخطر ببالي السؤال عن سبب بقاء “وردة” وحيدةً بعدما سافر الجميع في قطار الأحلام. هل هي الضريبة التي يدفعها غالباً الحالمون بالتغيير! من يدفع الضريبة الآن هنا؟ الحالمون بالتغيير. هُم خسروا الكثير وسارقو الأحلام ربحوا. من يدخل إلى السجون؟ الحالمون بالتغيير يدخلون لأنّهم قالوا كلاماً قبيحاً أو قطعوا طريقاً. أنا لا أقول أنّ الشّتائم تعجبني، لكنّي أقول أنّ السجن هو المكان الطبيعي للذين قطعوا أرزاق الناس والذين فسدوا، وليس مكان من انفعل من المتظاهرين معبّراً عن يأسه خارج إطار “البروتوكول”.

وماذا عن اليوم؟ نعيش اليوم جوّ “ناطورة المفاتيح”. ملك “سيرا” ظالم، فرض ضرائب على الناس، إلى أن أرهقهم، فقرّر سكّان مملكتِه أن يتركوا مفاتيح بيوتهم ويرحلوا لأنهم لم يعودوا يطيقون الظلم. وهكذا فرغت المملكة من الشعب إلّا الملك، و”زاد الخير” حارسة المفاتيح. هي قرّرت أن تبقى في المملكة، وتحرس البيوت، وتحاور الملك، وتطلب منه العدل لعلّ الذين غادروا يعودون، فيعود الملكُ ملِكاً، وتعود الرعيّة التي رحلت، وتعود المملكة. ألسنا الآن هناك؟ اللبنانيّون هذه الأيّام لا يفكّرون في الهجرة وترك البيوت. هُم فعلاً يهاجرون. في البدايات كانت الهجرة للمسيحيّين. تلاهم الدروز، ومن ثمّ السنّة واليوم تعجّ دول العالم بالمهاجرين اللبنانيّين من كل الطوائف. تعبَت الناس من ظلم الذين يتعاطون الشأن العام. بات الحمل أكبر منهم. ليس لهم إلا الله معينٌ. الكبار في لبنان يركضون إلى هذه السفارة أو تلك يتوسّلونهم لكي لا يسهّلوا الهجرة. لا تتوسّلوا السفارات. حاربوا الفساد بلا هوادة. هذه هي الطريق ليبقى الشعب هنا. المطلوب أن تكونوا مبادرين Proactive وليس انفعاليّين Reactive تعيشون في ردّات الفعل.

في “ناطورة المفاتيح”، أدرك الملك – أنطوان كرباج – أنّ المملكة بدون الناس الذين هربوا من طغيانه لا معنى لها، خاصة وأنّ “زاد الخير” هدّدت بالرحيل هي أيضاً. نزل عن عرشه، ليقرع أبواب البيوت المهجورة، ويصرخ متوسلاً لهم أن يعودوا. هل يفعلها زعماؤنا قبل أن تصبح قلّة قليلة منّا “ناطورة المفاتيح”؟ على من ستملكون؟ لن تجدوا بين الباقين من يهلّل لكم في الانتخابات المقبلة. الناس، وإن بقيَت هنا، سترحل وهي في بيوتها. لن تسأل عنكم. أنتم لا تعنوها بشيء.

هل كان زمن “سفر برلك” أرحم من زمن “المحطّة”؟ وهل كانت “المحطّة” التي كان فيها شيء من أمل ولو وهمي أفضل من زمن “ناطورة المفاتيح”؟ هل سيبقى الزعماء وحدهم فيما الرعيّة تهاجر؟

كم يعيد التاريخ نفسه! وكم هي مؤلمةٌ هذه الحقيقة. تحضرني في هذه اللحظات كلمات الطفل السوري الذي توفي قبل سنوات، والذي تحوّلت عبارته الأخيرة الشهيرة إلى “هاشتاغ” ولوحات إعلانات وعناوين كبيرة. قال هذا الطفل قبل الوفاة: “سأخبر الله بكل شيء”.

سمير قسطنطين