في حياةِ كثيرين منّا رسالةٌ يعيشون من أجلها لا بل يعيشونها. فهذه أُمٌّ حرَمَت نفسَها من اكتساب خبرةٍ مهنيّةٍ وفرصٍ للنموّ في العالم المحترف بسبب إصرارِها على البقاء قرب أولادها الصغار ريثما يكبرون. وهذا رجلٌ أمضى حياتَه مُخصِّصاً وقت فراغه كلَّه متطوّعاً من دون مقابل في مؤسّسةٍ مثل الصليب الأحمر. تلك معلّمةٌ حاول كثيرون إقناعها في أيّام صِباها أن تختار مهنةً أقلّ ضنى من مهنةِ التعليم، لكنّها شعَرَت وبقوّة أنّ حياتَها ستكونُ من دون معنىً مكتملٍ ما لم تمتهنْ التعليم رسالةً. وذاك شابٌ، ما إن أنهى دراسته الجامعيّة، حتّى أسّس جمعيّةً بيئيّةً وقرّر أن يُمضي حياتَه مدافعاً عن صحّةِ البيئة في بلدٍ لا يُعطي البيئةَ عُشْرَ ما تُعطيه هيَ من عنايةٍ وجمالٍ وعذوبة.
رسالتُك في الحياة هي تصوُّرُك الشخصيُّ لها. هي نُسختُك الخاصّة من الحياة. رسالتُك هي كلّ الأشياء التي تُتقنها وتجد سعادةً في القيام بها. الرسالةُ تجسّدُ رؤيتَك حول كيف يجب أن تكون الأمور.
لكنّ هؤلاء “الرسل”، إذا جاز التعبير، يتهدّدُهم خطران خلال القيام بالرسالة.
الخطر الأوّل يأتي في أيّام الرّاحة. عندما تكون مرتاحاً في وقتِكَ وميسوراً في مدخولِك المادّي، وعندما تسير كلّ أمورك بوتيرةٍ هادئة، هناك خطرٌ بأن تنسى الرسالة وتتلهّى بـ “أكسسوارِها”. تصبح الرسالةُ نوعاً من التَرَف. الخوف هو أن تلتهي برونق المكتب وكثافة العلاقات، وأن تلتهي بالمديح الذي تسمعه، وتغرقَ بشعورِك الجميل الذي تعطيكَ إيّاه حاجة الناس إليك.
وإذا كُنتَ في منظّمةٍ غير حكوميّة أو كُنتَ مسؤولاً عن رعيّةٍ أو جماعةٍ، من الممكن أن تعجبَك أكثر من اللزوم تجهيزات المكتب التكنولوجيّة، وأن تبهرَك تسهيلات السفر بالدرجة الأولى، وأن تجذبَكَ الرحلات الترفيهيّة وسواها. في هكذا حالةٍ من الممكن أن تنسى الرسالةَ وأهدافَها الموضوعة في الأساس، وأن تبتعدَ عن زخمِها الأوّل وما كُنتَ تعتبره “قدسيّة العمل”، وأن تبدأ بالتلهّي بما كُنتَ تعتبرُه في مرحلة البدايات غير ضروري وغير أساسي.
الخطر الثاني أثناء تأديتك لرسالتِك، يتأتّى من كثرة المشاكل التي تحيط بكَ أثناء القيام بمهامّك النبيلة. خُذ مثلاً على ذلك ما يختبرُه المعلّمون في هذه الأيّام الصعبة. المشاكل من حولهم كثيرة. خطرُ الصرفِ يحيط بكثيرين. عدمُ قبض رواتبهم كاملةً خطرٌ أكيد. صعوبةُ التعاطي مع طرائق التعليم الجديدة وخصوصاً “التعلّم عن بعد” أتعبَهم كثيراً. كلُّ ذلك يأتي وسط قلقهم كبشرٍ على أولادِهم وأزواجهم من خطر الكورونا وغيرها. في هكذا وضع أنتَ معرّضٌ بأن تنسى الرسالةَ وتغرقَ في المشاكل. كان كلُّ همّكَ قبلاً أن تعيش رسالتك، وكُنتَ فرِحاً في أنّها أصبَحَت الكثير من حياتِك. الآن بات همُّك أن تستمرّ كإنسانٍ.
أعرف كثيرين من الأشخاص الذين نذروا حياتهم لقضيّةٍ ما أو رسالةٍ ما أو خدمةٍ ما، وقد باتَ كلّ همّهم الآن أن يهجروا البلد، أو بالحدّ الأدنى أن يتأكّدوا من أنّ أولادَهم لن يبقوا هنا. هذا خطرٌ حقيقيٌّ على الرسالةِ ومداها وتأثيرِها وحيويّتِها.
خطران كبيران يتهدّدانا ونحن نقوم برسالتنا في هذه الحياة: الأوّل هو الانغماس في الترف إلى درجةٍ ننسى فيها لماذا نحن بدأنا مشوار خدمتنا المجتمعيّة أو الروحيّة أو التربويّة، والثاني هو الإنحناء أمام الهموم والمشاكل إلى درجةٍ ننسى فيها أيضاً سبب وجودنا.
في كتابه الشهير Purpose driven Life أي “الحياة ذات القصد”، يقول الكاتب ريك وارن، الذي فقد أحد أبنائه قبل سبع سنوات في حادثة انتحار بعد معاناةٍ طويلة من مرض عقلي:
“Your commitments can develop you or destroy you, but either way, they will define you.”
معنى هذا الكلام بتصرّف: “يمكن لإلتزاماتكَ الحياتيّة أن تطوّرك أو أن تدمّرك، لكنّها في الحالتين هي التي تحدِّد من أنت”.
سمير قسطنطين
أحدث التعليقات