كُلُّنا نخطئ. ليس أحدٌ معصوماً عن الخطأ. في معظم المرّات لا تكون أخطاؤنا كبيرة أي أنّنا لن نسرقَ أحداً، ولن نضرب إبن جيراننا، ولن ندهسَ أحدَهم في الطريق ونفرّ إلى جهةٍ مجهولة.
أخطاؤنا في معظمها هي أخطاء تواصليّة علائقيّة، هي عبارة عن كلماتٍ لا تليق نقولها لشخصٍ ما. هذه العبارات تحقّره، أو تستفزّه، أو تتّهمه ظُلماً بفعل أمرٍ ما، أو هي تجرحُه في الصميم، أو كلّ ما ذكرتُ. ولهذا النوع من الأخطاء ثابتَتَيْن: الأولى، أنّنا نرتكبُها في لحظات غضبٍ أو غَيْرَة أو الإثنتين معاً. وثانياً، أنّنا نوجّهُها في مرّات كثيرة لأشخاصٍ نحبّهم ويحبّوننا وقد غرنا عليهم أو غضبنا منهم. هذه الأخطاء تحصل.
الأشخاص الذين يسهل عليهم إتّهام الآخرين، والذين يعتبون كثيراً، والذين لهم توقّعات غير واقعيّة من الناس الذين حولهم، والذين يرفضون تحمّل أيّ مسؤوليّة فيوجّهونها إلى آخرين، هؤلاء الأشخاص يقعون في هكذا أخطاء أكثر من سواهم. المشكلة ليست هنا. المشكلة تكمن في العودة عن الخطأ عند هؤلاء. عندما يهدأون وتذهب نوبة الغضب أو الغيرة، يدركون وبسرعة أنّ أمراً ما قد حصل، وأنّ الوضع لم يعد طبيعيّاً.
في بعض المرّات يعيش هؤلاء في النكران أي الـ Denial، ويُقنِعون أنفسَهم بأنّهم لم يخطئوا، وأنّ الآخر هو الذي أخطأ، أو أنّه هو الذي تسبّب بخطئهم عندما غضبوا، أو أنّه “بيستاهل العَيْطَة”. البعض الآخر يدرك أنّه أخطأ ويعتذر بشكلٍ مباشر وواضح وبكلماتٍ بسيطة، ويسعى إلى ترميم العلاقة، بغضِّ النظر عن موقف الشخص المجروح. هو يعتذر لأنّه “كبير” ولأنّه قوي ولأنّه يريد أن يكون في الصواب بغضّ النظر عمّا إذا ثمَّنَ الآخرُ اعتذارَه أم أنّه استخفّ بالاعتذار.
إلّا أنّ المشكلة الكبيرة تكمن في الشخص الذي أخطأ، وهو يدرك بأنّه أخطأ، لكنّه لا يقوى على الاعتذار. هذه هي المشكلة التي خرّبَت علاقاتٍ جميلة خصوصاً عندما تصبح متكرّرةً وتجاه الشخص نفسه، وهو الذي يكون قد سامح مرّاتٍ عدّة من دون السؤال عن الاعتذار.
لماذا لا نعتذر على الرّغم من إدراكنا أنّنا أخطأنا؟ نتردّد في الاعتذار لأنّ علاقتَنا بأنفسنا قد لا تكون علاقةً سويّة. فالاعتذار يتطلّب شجاعةً وقد نكون غير شجعان. وفي بعض المرّات، ننظر إلى الاعتذار على أنّه ذلٌّ وهو ليس كذلك، فنخشى على معنويّاتنا. كذلك فإنّ خوفنا من رفض الاعتذار قد يكون سبباً فنحجمَ عن المبادرة بسبب ضعفنا البشري من الرفض. لكنّ السبب الأساسي للتمنّع عن الاعتذار هو العناد وزِدْ عليه المكابرة. نعم العناد. العناد النفسيُّ عند الكبار لا يقوم على منطق، ولا يساندُه دليل ولا حجّة، بل هو نزعةٌ عدوانيّةٌ، وسلوك سلبيٌّ، وتمرّدٌ ضد الآخرين، وتظهر معه إرادةُ المخالفةِ والتصادمِ وعدم الاستجابةِ للنّصحِ والتوجيه. وهذا الوضع يطرح سؤالاً كبيراً حول علاقتي مع نفسي بالدرجة الأولى.
ما بين النكران الـ Denial والعناد، ندمّر علاقاتٍ كانت جميلة، وذكرياتٍ كانت أجمل، وصداقاتٍ بدا عمرُها مديداً للحظة. هل كانت هذه العلاقات حقيقيّةً؟ هل كانت فعلاً قويّة؟ وإذا كانت حقيقيّة، فكيف يسهل التخلّي عنها؟
آرثر شوبنهاور، فنّان وكاتب وفيلسوف عاش في القرن التاسع عشر، يقول في العناد: “ينتج العنادُ عن محاولةِ الإرادةِ إقحامَ نفسِها محلَّ العقل”. وفي قولٍ فكاهي عن العناد في الزواج يقول بول سويني وهو سياسيٌّ اسكتلندي: “الذكرى السنوية للزواج هي احتفالٌ بالحب والثقة بالآخر والشراكة والتسامح والعناد، لكن ترتيب هذه الصفات يتغيّر من سنة إلى أخرى”.
سمير قسطنطين
أحدث التعليقات