عندما تعيش في بلدٍ تكثر فيه الأحداث، ويرتفع منسوب التصريحات مع كلِّ حدثٍ، وتتوالى المواقف الكبيرة تصحبها عناوين كبيرة، لا يمكنكَ إلّا أن تتأمّل فيها.

في السنوات الأخيرة سمعنا شعارات بَدَت وكأنّها تصلح لأن تكون رؤيا لحزبٍ، لحكومة، وربّما لوطن. فمثلاً، سمعنا عن ثلاثيّة “الشعب والجيش والمقاومة” التي يتمسّك فيها حزب الله، وسمعنا شعار “النأي بالنفس” الذي أطلقة الرئيس نجيب ميقاتي بعدما شكّل حكومته في عام 2011. ومَن منّا لم يتعب من سماع شعار “الاستراتيجيّة الدفاعيّة” الذي مرّ على إطلاقه سنين طويلة؟ عندما بدأ حراك 17 تشرين، سمعنا شعارات من مثل “استرداد الأموال المنهوبة”، هذا الشعار الذي تبنّاه رئيس الحكومة الدكتور حسّان دياب في أوّل تصريحٍ له بعد تشكيل الحكومة. وفي الآونة الأخيرة سمعنا شعارَين أساسيَّيْن، الأوّل ينادي بالفيديراليّة والثاني يتعلّق بـ “حياد لبنان”. إذا أردْتُ أن أُعدّد كلّ الشعارات المرفوعة، فلن أنتهي في وقت قريب.

لا أُريد أن أُبدي رأيي في كلّ هذه الشعارات. باختصار، بعضها يجذبُني، والبعض الآخر لا أستسيغه، والبعض الثالث لا معرفة وافية لي في مضمونه الحقيقي لأُبدي رأيي فيه. لكنّي أودّ أن أقول أنّ كلّ شعارٍ مثل هذه الشعارات يبقى شعاراً له صفة الـ Slogan ليس إلّا، ما لم ترافقه ثلاثة أمورٍ بديهيّة: رؤيا واضحة تحدّد المآل، أي المكان الذي تريد أن تبلغَه، وخطّة عمل تحدّد طريقة الوصول وطريق الذهاب إلى هناك، وعملٌ مؤسّساتي يجعل الوصول ممكناً ومتكاملاً ومحميّاً من الغوغائيّة.

خُذ مثلاً شعار “الفيديراليّة”. حتّى الآن أراه شعاراً. قد يبدو برّاقاً في بعض الأحيان. هو ليس تقسيماً كما يحلو للبعض أن يقولوا فيه لكي “يزركوا” من يطرحه. وهناك أمثلة عليه وأخرى تشبهه كثيرة في الغرب والشرق. الولايات المتّحدة الأميركيّة والمملكة المتّحدة والإمارات العربيّة المتّحدة هي أشكالُ أنظمةٍ سياسيّة تحاكي الفيديراليّة بشكلٍ كبير، وهي بلدانٌ موّحَدة وغير مقسّمة. لكنّي في الوقت نفسه، لم أرَ لشعار الفيديراليّة حتّى الآن رؤيا واضحة. لم يتقدّم حزبٌ سياسي مثلاً من رئاسة مجلس النوّاب بمشروع قانون لدراسة الفيديراليّة بغضّ النظر عمّا إذا كان الرئيس نبيه برّي سيضعه في الجارور أم لا. هذا شأنه. الأحزاب تقوم بالـ Homework الذي يخصّها بغضّ النظر عما يفعله المشرّعون لاحقاً.

خُذ مثلاً آخر هو شعار “استرداد الأموال المنهوبة” أو شعار “مكافحة الفساد” اللذَيْن طرحهما المتظاهرون أوّلاً ومن ثمّ تبنّتهما بشكلٍ أو بآخر الحكومة الحاليّة. قد تكون الرؤيا لهذَيْن المشروعَيْن واضحة. وقد يكون المكان الذي تريد الحكومة، إذا صدّقنا شعارها، أن تصل إليه واضحاً، لكن أين هي خطّة العمل؟! لم أَرَها حتّى الآن. قد أكون ضعيف النظر ربّما، وسأفترض أنّ الخطّة موجودةٌ، لكن أين العمل المؤسّساتي للوصول إلى هناك؟ أين مواكبة الحكومة لهذه الخطّة؟ وأين مرافقة مجلس النوّاب لها؟ تبدو المواكبة هزيلة، فبعد استبعاد مجلس الوزراء اللبناني فكرة التعاقد مع شركة كرول KROLL الأميركيّة للتدقيق المالي الجنائي في حسابات مصرف لبنان، لاعتبارات أمنية تخّص علاقتها بإسرائيل (طبعاً الكلّ يعرف أنّ السبب الحقيقي هو غير ذلك)، وبعد تجنُّب التعاقد مع شركة الـ FTI على أساس أنّ لها مكتباً في تل أبيب (كلّ هذه الشركات الكبيرة لها مكاتب في فلسطين المحتلّة)، قرّرَتْ الحكومة التعاقد مع شركة Alvarez & Marsal ، التي تخرّج مديرها من جامعة تل أبيب، والتي لا تملك خبرةً عميقة في التحقيق الجنائي. لا أدري كيف لم يشكّل هذا الأمر عائقاً أمام التكليف، فيما شكّل مانعاً مع شركة KROLL. في كلّ الأحوال، شعار “مكافحة الفساد” الذي تتبنّاه الحكومة، لا خطّة عملٍ واضحة له، لا في الحكومة ولا في مجلس النوّاب، وكلّ الآراء حوله هي آراء سياسيّة فارغة، ليس فيها مواقف وطنيّة حقيقيّة تفتّش عن الأفضل للبنان.

من هنا أتمنّى أن يكون طرح “حياد لبنان” وكلُّ طرحٍ آخر قد يكون مفيداً للبلد، ذا رؤيا وخطّة عملٍ مترافقةٍ مع عملٍ مؤسّساتي، أكان ذلك في مجلس الوزراء أم في مجلس النوّاب أم في الدوائر الكنسيّة أم في أيّ مكانٍ وطنيٍّ آخر، فيأتي الشعار زاخماً ويُبني حوله إجماعٌ وطني أو شبه إجماع. عندها قد يعبر الطرح بسلام. وإن لم يعبر الطرح، فالأضرار تبقى محدودة.

إذا نحن فعلاً أرَدْنا أن يذهبَ لبنان إلى مكانٍ ما في السياسة أو الاقتصاد أو الشفافيّة الماليّة أو التربية أو أي مجالٍ آخر، علينا أن نسعى لكي نبني إجماعاً حول هذا المكان الذي نريد للبنان أن يذهب إليه. لا أدري إن كان سياسيّونا قادرين على فعل ذلك، ليس بفعل الفساد المستشري، بل بفعل العجز عن التفكير والابتكار، وبفعل التمتّع بالسهرات والأعراس والمآتم أكثر بكثير من التمتّع بالجلوس خلف أبوابٍ مغلقة والتفكير مع فريق عمل بعيداً عن الكاميرات والتصاريح التي لا طعم لها.

القادة يبنون إجماعاً. مارتن لوثر كينغ جونيور قال مرّة:
“A genuine leader is not a searcher for consensus but a molder of consensus.”
معنى هذا الكلام بتصرّف أنّ القائد الأصيل لا ينظر إلى مكان وجود الجماعة فيذهبَ إلى هناك ليكون قائدَهم، بل هو يحاول أن يصقل إجماعاً للجماعة حول قضيّةٍ ما. ولن يستطيع أيّ قائدٍ فعلي أن يأخذ لبنان إلى مكانٍ أفضل ما لم يبنِ أوّلاً هذا الإجماع أو شبه الإجماع. وهذا الأمر لن يتحقّق ما لم يكن لدى القائد رؤيا واضحة حول المآل، وخطّة عمل حول طريق الوصول، والقدرة على مواكبة العمل مؤسّساتيّاً. قد يأخذ الأمر وقتاً لفعل ذلك، لكن ألَمْ نحرق أعمارَنا ونحن ننتظر مع غودو، وربّما عنه، هذا الخروج من هذا النفق؟

هي دعوةٌ لنا جميعاً لكي نكون استراتيجيّين في طرحنا. لعلّ الأفكار رائعة ومفيدة للبنان، إلّا أنّنا مدعوّون جميعاً لكي نبني إجماعاً حولها عن طريق وضع رؤيا وخطّةِ عملٍ وخريطةٍ للعمل المؤسّساتي من أجل التنفيذ.

سمير قسطنطين