إيمانويل ماكرون زار بيروت لساعات. زيارةٌ تشبه الزلزال. اليوم تبدأ الهزّات الارتداديّة. الكلّ خفّ إلى القصر الجمهوري. لم يكن لدى الرؤساء الثلاثة خياراتٌ كثيرة. رؤساء الكتل كانوا جميعهم هناك أيضاً. من الواضح أنّ الوجوه لم تحمل الكثير من السرور والحبور. حتّى المتوجّمون منهم الذين لم يدلوا بكلمةٍ خارج القاعة، كانوا هناك.
من زيارته الصباحيّة إلى الجمّيزة إلى مؤتمره الصحافي في قصر الصنوبر مساءً، أعلن إيمانويل ماكرون ثلاثة إعلانات كبيرة.
الإعلان الأوّل إنساني. قال الرئيس الفرنسي: “سنكون إلى جانب من يساعدون وينقذون ويشفون ويعيدون البناء”. وورّط الرئيس الفرنسي في هذا الإعلان الإنساني دول العالم حين قال: “فرنسا ستكون هنا، للمساعدة في تنظيم المساعدة الدوليّة للبنان”. وأرسلَ ماكرون رسالةً واضحة إلى العالم التربوي قائلاً: “في أيلول، سنذهب أبعد لدعم المدارس والجامعات، من أجل شباب لبنان”.
الإعلان الثاني كان إعلان عدم الثقة بالطبقة الحاكمة. هو أعلن فشلَهم كأشخاص. عندما يتحدّث الرئيس الفرنسي عن أنّ “المساعدات التي ستقدّمها فرنسا كما الإتحاد الأوروبي ستكون موجّهة حصراً إلى الشعب اللبناني والمنظّمات غير الحكوميّة والفِرَق التي تعمل على الأرض”، ماذا يكون ذلك غير إعلانٍ بعدم الثقة بالطبقة الحاكمة! يحزنُني جدّاً أنّ ماكرون لم يميِّز رئيساً عن سواه ولا إدارةً رسميّة عن سواها، ولا وزيراً عن زملائه أو زميلاته. ويبدو أنّ عدم الثقة هذه ليست فرنسيّة فحسب بل دوليّة أيضاً. فعندما يقول بالفم الملآن أنّ “الأموال من أجل لبنان موجودة. لكنها تنتظر تطبيق الإصلاحات الداخليّة”، ماذا يعني ذلك سوى عدم ثقة دوليّة بالطبقة الحاكمة؟ وعندما يقول ماكرون بوضوح أنّ “هناك حاجة لإجراء تحقيقٍ دوليٍّ في الانفجار يكون على أقصى قدر ممكن من الشفافيّة”، ماذا يعني ذلك سوى قلّة الثقة حتّى بالقضاء اللبناني ومن خلفه السياسيّين؟ رئيس فرنسا لا يثق أيضاً بقدرة السياسيّين اللبنانيّين على إطلاق أيّة مبادرة جديدة. هو لم يخجلْ بالقول صباحاً: “أنا هنا لإطلاق مبادرة سياسيّةٍ جديدة، هذا ما سأعرب عنه بعد الظهر للمسؤولين والقوى السياسيّة اللبنانيّة”، مشيراً إلى ضرورة بدء “الإصلاحات وتغيير النظام ووقف الانقسام”. ماكرون كشف أنّه قال للرئيسين عون وبرّي أنّ “أموال سيدر موجودة وهي بانتظار الإصلاحات في الكهرباء والمياه وكلّ المؤسّسات ومكافحة الفساد”. لا أدري بماذا شعر السياسيّون اللبنانيّون حين طالبهم الرئيس الفرنسي بإحداث “تغيير عميق” في أدائهم.
الإعلان الثالث هو إعلان لبنان دولة فاشلة. صحيحٌ أنّه قال لمن تحرّكت عاطفتهم مطالبين بالانتداب: “لا يمكن أن تطلبوا من فرنسا ألّا تحترم السيادة اللبنانية”، لكن صحيحٌ أيضاً أنّه أعلنَ أنّه سيعود إلى لبنان في الأوّل من أيلول. هو لم ينتظر دعوةً رسميّةً من أحد. أعلن ذلك من طرفٍ واحد. وكان واضحاً أنّه غيرُ عائدٍ “من أجل ذكرى لبنان الكبير فحسب، إنّما أيضا من أجل تقييم معاً هذه القفزة الضروريّة، ولأنّني أعتقد أنّه لا يوجد طريق آخر للبنان الحديث”. كان واضحاً في كلامه عندما قال: الأوضاع “إنما تفترض عادة بناء نظام سياسيٍّ جديد”. ولماذا يقول رئيس دولةٍ عن دولةٍ أخرى كلاماً مثل هذا لو لم يعتبر لبنان دولةً فاشلةً!! لكنّ أخطر ما في إعلان عودته في أيلول كان كلامه للثائرين في الجميّزة أنّه “يعرف التزاماته تجاه الشعب اللبناني” إذا فشل السياسيّون في تلقّف المبادرة. فإذا جاء ماكرون ووجدَ أنّ شيئاً على الأرض لم يتغيّر، ماذا سيفعل؟ ماذا ستفعل فرنسا؟ ماذا ستفعل دول العالم؟ تكمن الخطورة هنا لسببين: الأوّل، إذا لم تفعل فرنسا شيئاً، فهي تكون قد ورّطت نفسها بوعودٍ لم تقدِرْ على تلبيتِها. وثانياً، إذا تحرّكت فرنسا والعالم كنتيجةٍ لفشلِ الدولةِ الكامل، فماذا سيكون انعكاس ذلك على لبنان؟
بهذا الوعد بالعودة في أيلول، كأنّي بماكرون يقول لنا: “أنتم تلاميذ فاشلون لكنّي سأعطيكم فرصة لامتحان “إكمال” في أيلول”. لا أدري ماذا ينتظرنا. ولا أعلم إذا كان امتحان الـ “إكمال” هذا أونلاين أم حضوريّاً، لكنّي أعتقد أنّ مجيء ماكرون يأتي في سياقٍ يبدو أنّ سياسيّينا بدأوا يوم أمس تلمّسه وإنْ كانت الصورة ما زالت غير واضحة.
اليوم تبدأ الهزّات الارتداديّة علماً أنّ السوشال ميديا كانت بدأت الاهتزاز فور بدء ماكرون كلامه في بيروت صباحاً. الموالون بدأوا الحديث عن “السيادة” في مقابل “التبعيّة”. نسوا أنّ ثلاثين نائباً فرنسيّاً متوشّحين بالعلم اللبناني أتوا إلى القصر الجمهوري في العام 1989 تحت نيران قصف الجيش السوري لكي يقفوا إلى جانب لبنان، تماماً كما فعل رئيس بلدهم يوم أمس. والمعارضون ظنّوا للحظةٍ أنّ ما قاله ماكرون يُفيدهم بطريقةٍ ما. إعلانات ماكرون الثلاثة لم تلتفِت إلى مشاعر الموالاة ولا انتبهَت إلى سذاجة المعارضة. المسألةُ أكبر من الموالاة والمعارضة بكثير.
سمير قسطنطين
أحدث التعليقات