يحزنُني كيف تتحوّل الأحزاب من دفاعها عن قضايا كبيرة إلى الدفاع عن زعيمٍ. ويزعجُني بنوعٍ خاص هذا السجال الذي لا ينتهي على وسائل التواصل الاجتماعي بين مناصري القوّات اللبنانيّة ومسؤوليها من جهة، وبين مناصري التيّار الوطني الحر ومسؤوليه من جهة ثانية.

القوّات اللبنانيّة لا ترى فاسداً في الجمهوريّة اللبنانيّة سوى الوزير جبران باسيل. لا تُصدر القوّات أيّ كلامٍ حول الفساد نحو أيٍّ كان غير باسيل. لا نسمع أيّ موقفٍ منها حول الفساد يتعلّق بتيّار المستقبل أو حركة أمل أو الحزب التقدّمي الاشتراكي. أنا لا أقول أنّ في صفوف هؤلاء فاسدين ويجب على القوّات أن تهاجمهم. ولا أقول أنّهم غير فاسدين، وإنّ مهاجمتَهم بالتالي هي افتراء. جلّ ما أقوله هو أنّ حزباً بحجم القوّات اللبنانيّة، لا يجوز أن تصبح قضيّته الأولى في وسائل الإعلام مهاجمة الوزير باسيل. القوّات طرحت في الماضي شعاراتٍ كبيرة وناضلت من أجل مبادئ كبيرة، وكان لها شهداء بالآلاف من أجل قضايا مصيريّة، فلا يجوز أن يكون الموضوع المُحبَّب إلى قلبها الآن هو برهان فساد التيّار الوطني الحر. لا أعتقد أنّ جبران باسيل تغيّر كثيراً منذ اتّفاق معراب وحتّى اليوم. هذا هو “جبران” أحببتَه أم لم تحبّه. في زمن اتّفاق معراب كان مناصرو القوّات يقولون كلاماً إيجابيّاً في التيّار ورئيسه. ماذا تغيّر الآن على المستوى الشخصي؟ لا أعتقد أنّ شيئاً مهمّاً في شخصيّة جبران باسيل قد تغيّر.

في المقابل، فإنّ التيّار الوطني الحر قام على شعارات كبيرة من مثل “الدولة لا الدويلة”، كما أذكر صور الرئيس العماد ميشال عون في الـ 1989 وعليها شعار “لبنان القوي”. ومن منّا لا يتذكّر شعار “أكبر من أن يُبلَع وأصغر من أن يُقسّم”؟ هذه كانت شعارات التيّار الوطني الحر الذي كان في ذلك الحين “التيّار العوني” ومن ثمّ “التيّار” ومؤخّراً “التيّار الوطني الحر”. فجأةً لم يعد مناصرو التيّار ينتبهون إلى أيّة قضيّة وطنيّة مثلما ينتبهون إلى قضيّة الدفاع عن رئيسه الوزير جبران باسيل! “مِشْ من زمان” كان شعار التيّار الوطني الحر “الإصلاح والتغيير”. كان ذلك منذ سنواتٍ قليلة، ربّما منذ سنتين فقط. “على فوقا”، لا أدري لماذا غيّر التيّار شعاره. هذا الشعار كان ترجمةً لتطلّعات الرئيس ميشال عون في نهاية الثمانينات وفي أيّام النفي إلى فرنسا. فجأةً لم تعد تقرأ لمناصري التيّار الوطني الحر أيّ شعارٍ آخر على وسائل التواصل الاجتماعي سوى شعارات الدفاع عن الوزير باسيل! في انفجار المرفأ رأيتهم مرتبكين في ما يكتبون. لا أدري لماذا. هُم لا دخل لهم لا من قريب ولا من بعيد. كانت أوجاع الناس تأخذ منهم حيّزاً كبيراً جدّاً في الماضي. كانت قضايا السيادة والحرّية والاستقلال، وقضايا الإصلاح والتغيير، وقضايا الدولة لا الدويلة تأخذ كلّ انتباههم. اليوم بات همّهم الدفاع عن رئيس التيّار!

القوّات اللبنانيّة ومن قبلها حزب الكتائب من جهة، والتيّار العوني من جهة ثانية جسّدوا آمال كثيرين من اللبنانيّين. أَوَلم تكن صور الدكتور سمير جعجع تُرفع في طرابلس احتراماً لدوره القيادي في “ثورة الأرز”؟ أَوَلم يكن للتيّار الوطني الحر مناصرون على امتداد مساحة الوطن؟ لماذا؟ لأنّ قضاياهم كانت كبيرة بغضّ النظر عمّن منّا أحبّ أيّة جهة. القضايا كانت كبيرة، التضحيات كانت أكبر. فجأة دخلنا معارك شوارع يدور فيها القتال بالسلاح الأبيض وللإسف.

أعتقد أنّه إذا استمرّ الوضع على هذا المنوال، فإنّ الناس بمعظمها ستذهب إلى خياراتٍ أخرى، ثالثة ورابعة. وفي أقلّ الأحوال فلن يبقى من بين الناس متحمّسون كُثُر لهكذا معارك صغيرة بعدما كانت القضايا، ولوقتٍ طويل، بحجم الوطن.

كتبتُ هذا الكلام بمحبّةٍ لكلّ الناس. من يريد أن يعتبَ عليّ فلا بأس. أصدقائي هنا وهناك كُثُرٌ جدّاً. هذا لا يفسد في الودّ قضيّة. صديقُك هو من صَدَقَك. “إنتو مِش آخدين من دربي ودرب الناس شي”. لكنّكم تقدرون أن تزرعوا على دروب الناس والوطن إنجازاتٍ أكبر إن عادت قضاياكم كبيرة، ولا بأس إنْ كانت خياراتكم السياسيّة مختلفة. هكذا فعلتم أيّام اتّفاق معراب. لم يغيّر أحدٌ منكما رأيه السياسي في المواضيع الكبرى أيّام الاتّفاق. يومها إتّفقتم على النضال من أجل قضايا كبرى من مثل السيادة والحريّة والاستقلال والنزاهة في العمل العام، لكنّكم اليوم اختلفتم على تفاصيلها ربّما بسبب حبّنا للسلطة أكثر من رغبتنا في خدمة البلد والناس.

لذا عودوا إلى قضايا كبيرة بحجم المصير قبل أن ينتهي المصير كارثيّاً، فلا تعود القضايا تعني شيئاً، إذ أنّ المناصرين ومن مثّلتم وجدانهم الجماعي لعشرات السنين، سيكونون إمّا في الغربة أو تحت التراب أو قابعين في بيوتهم في يوم الانتخابات.

سمير قسطنطين