الأمثال الشعبيّة تقول لكَ الكثير عن ثقافةِ قومٍ. في صغري، كُنتُ أسمع أهلي يردّدون هذا المثل: “ما عندو كبير إلّا الجمل”. الفكرة هي أنّ هناك شخصاً ما يتمتّع بجرأةٍ مميّزة يُقدم على انتقاد أشخاص علا شأنهم من دون خوفٍ أو تردُّد. وهذا الشخص لا يرى كبيراً إلّا الجمل، في إشارةٍ إلى كُبر حجم الجمل مقارنةً بحجم المنتَقَدين الصغار.
في لبنان حتّى الجَمَل لم يعُد كبيراً بنظر الناس. هُم يطلقون النار على صفحات التواصل الاجتماعي من دون خوفٍ ولا خجل. يُعلن البطريرك الماروني مواقف حول موضوع “الحياد الناشط”. يتّهمه إعلاميٌّ بالتماهي مع موقف إسرائيل. تؤجّر رهبانيّةٌ مدرسةً لها في عين الرمّانة إلى مستثمِر. يهاجم مئات الأشخاص الكنيسة ناعتين ناسها بـ “تجّار الهيكل”. يحصل انفجارٌ في المرفأ. يطلق الناس على اختلاف ميولهم السياسيّة اتّهاماتٍ في ثلاثة اتّجاهاتٍ. البعض يصف سماحة السيّد حسن نصرالله وحزب الله بالمجرمين، والبعض الثاني يطلق عباراتٍ قاسية في حقّ النائب العام القاضي غسّان عويدات، وفي كلّ مرّة يذكرون إسمه، يُضيفون عليه هاشتاغ “يلّلي بعد ما انشنق”. والبعض الثالث يُطلق كلاماً بحقّ الوزير جبران باسيل ويضع صوراً لأولاده مع تعليقاتٍ عنفيّة. هذه التعليقات لم توفّر رئيس الجمهوريّة الذي يذكرون إسمه متحدّثين عن “البيجاما”، ويروّجون له مقتطفاتٍ من كلامٍ سابقٍ له لا يخلو من الهزء. ولا ننسى الكلام الذي يُقال في حقّ رئيس الحكومة من مثل تسميته بالـ “حسّونة”، وربط فكرة المشط به.
يأخذني ذلك إلى المثل الشعبي القائل: “ما عندو كبير إلّا الجمل”. لكن في لبنان، فقد تخطّى اللبنانيّون هذه العتبة، وأستطيع القول: “ما في كبير حتّى الجمل”.
لماذا يصل شعبٌ “بإمّو وبيّو” إلى هذا النوع من الانفعالات والتخاطب؟ هناك أربعة أسبابٍ لهذه الحالة من مشاعر الجرأة العالية وعدم اللياقة في نوعيّة الكلام عبر السوشال ميديا: أوّلاً، حجم اليأس. عندما ييأس المرء يقول كلاماً من دون أيّ خوف. “الناس ما بقى عندا شي تخسروا”. ثانياً، الشعور الكبير بالخذلان والعتب على السياسيّين. صحيحٌ أنّ البعض يردّد دائماً أنّ الناس هي من أوَصَلَت هؤلاء السياسيّين إلى الحكم، لكنّ هذه الملامة غير دقيقة. فقوانين الانتخابات التي رُكّبَت و”المحادل” التي نَتَجَت عنها لم تترك للناس خيارات كثيرة. ثالثاً، هو الشعور بأنّ فساد الكبار هو من أوصل البلد إلى هذا الدرك من الفشل على كلّ المستويات. لكنّ السبب الرابع والأساسي في رأيي هو أنّ الأقوياء هُم الذين ساهموا في جعل أنفسهم أضحوكة. نعم هُم ساهموا في ذلك. لم يصدّق الأقوياء أنّ الناس ستصل إلى شعورٍ كبير باليأس يتملّكها، ولم يصدّقوا أنّ خدمات التوظيف والإدخال إلى مستشفى أو شق طريق لم تعد تشتري الولاءات المطلقة.
القياديّون في لبنان، من أهل دينٍ ودنيا، وإن كان البعض منهم ظُلِم من طريقة تعاطي بعض الناس معهم على وسائل التواصل الاجتماعي، وهذه قناعتي، عليهم أن يعملوا ولوقتٍ طويل على تغيير أدائهم تغييراً جذريّاً، وتحسين مهاراتهم، وتطوير صورتهم التي باتت بشعة في عيون كثيرين، ولا أدري إن كان الوقت والظرف يسمحان بذلك.
سمير قسطنطين
أحدث التعليقات