المدارسُ في ورطةٍ. هي في مأزقٍ كبيرٍ على مستوى علاقتها مع الأهل لجهة جبايةِ الأقساط، وعلى مستوى علاقتها مع المعلّمين لجهة قدرتها على تسديد المعاشات كلَّ آخر شهر، وعلى مستوى قدرتها الحاليّة على تقديم خدماتٍ ذات جودة عن بُعْد، وعلى مستوى علاقتها بالتلاميذ لجهةِ إمكانيّة تنمية سلوكيّاتٍ تربويةٍ إيجابيّة فيهم “أونلاين”!
في حالةٍ كهذه تجد المدارس نفسها غيرَ قادرةٍ على التّفكير بأيِّ أمرٍ آخر خارج إطار تدبير الأزمة الماليّة التي تمرُّ فيها. هي لا تعود قادرةً على الحُلُم. وفي معالجة المأزق المالي الّذي تعيشُه المدارس، فإنّ أوّل ما يخطر ببالها هو إيقاف خدماتٍ أعْطَت لوناً فرِحاً للعمل التربوي في المدرسة، وأضافَتْ ثقافةً فوق ثقافة في الجوّ المدرسي التّعلّمي، وأغنَتْ مهارات التلاميذ التي كنّا نسمّيها قبل عقدين من الزّمن مهارات القرن الواحد والعشرين، وها نحنُ في خِضَمِّ معاركه التي تزداد صعوبةً كل يوم.
قد يقول لي أحدٌ: “وماذا يمكننا أن نفعل سوى ذلك؟” أنا لا أحاول أن أُزايد على أحد، فالأزمة كبيرة ومدراء المدارس تُرِكوا في وسط الملعب يتلقَّفون الطابة – كرة نار – وهم غيرُ مهيَّئين، وسلطةُ القرار ليست في يدِهم كاملةً، والظّروف التي يختبرونها هي جديدة بكلّ ما في الكلمة من معنى. فمتى كان لبنان عُرضَةً لفيروسٍ عابرٍ للقارّات ولشهورٍ طويلة؟ كان ذلك قبل ماية سنةٍ. ومنذُ متى كان آخر انهيار دراماتيكي للّيرة اللّبنانيّة؟ حدث ذلك قبل ثلاثين سنة من اليوم وعلى امتداد عشرِ سنواتٍ سابقة للثلاثين.
إذاً التّحدّيات جديدة وكبيرة وجاءت دُفعةً واحدة. في اللغةِ الإنكليزيّة هناك مثلٌ رائعٌ يقول: “When it rains, it pours”، ومعنى هذا الكلام “لمّا بتشتّي بتطّوف”. ينطبِقُ هذا الحال على واقع عمل مدراء المدارس.
هل من مخرجٍ؟ لا ليس هناك من مخرجٍ في الأفق، لكن هناك أشخاصٌ أو نوعيّة أشخاصٍ قد يساعدونك على الخروج من المأزق. المدرسة في مأزقٍ غير اعتيادي وليس سبيلٌ للخروج منه إذا لم تفكِّر خارج المألوف أي out of the box. الأفكارُ القديمة لجهة توفير المال لا تنفع الآن. وإن كانت هي ذات جدوى، فهي كذلك لفترة شهورٍ قليلة قادمة. ومن بعد ذلك … الطوفان. ماذا إذاً؟
في المؤسّسات هناك أشخاصٌ يصنعون فرقاً. هؤلاء الأشخاص لهم ثلاثُ ميزاتٍ أساسيّة محتومة. الصِّفة الأولى هي الكاميكازيّة. نعم المدارس بحاجةٍ إلى أشخاص كاميكازيّين يفكِّرون معها أو يقودونها. هؤلاء الأشخاص لهم القدرة على التسلّل إلى خارج المنطقة الآمنة أي الـ comfort zone. هؤلاء لهم القدرة على المشي خطواتٍ “برّات الزّيح”. هؤلاء تَراهُم يقومون بما نسمّيه بالإنكليزية calculated risks أي “مخاطر محسوبة”. الكاميكازيّون يغامرون. أنتَ في وضعٍ صعب فيما المدارس هي مؤسّسات كلاسيكيّة على عكس مؤسسات إنتاج الإعلانات مثلاً التي هي مؤسّساتٌ تغييريّة ثورويّة بطبعها. المدرسة كلاسيكيّة. هي كالجيوش لا تتحرّك إلّا ثقيلة الخطى، لكنّها عندما تتحرّك تُحدِثُ فرقاً. إلّا أنّ الوضع القائم لا يعطيها ترف الوقت للتّحرُّك. التربويّون غير متعوِّدين على المغامرة. أقول هذا الكلام بمحبّة ولا أقوله بتحدٍّ لا سمح الله.
لكنّ الكاميكازيّة وحدَها لا تنفع. المغامر بحاجةٍ إلى أن يكون شخصاً عنيداً أيضاً. لماذا العِناد؟ لأنَّ الأزمة التي يواجهها هي أزمةٌ عنيدةٌ شرِسةٌ وقحةٌ ومقاتلة قتالاً عنيفاً. إذا كان هذا القائد الموجود في المدرسة طريَّ العود، فهو لن يستطيع الوقوف على رجليه، وقد يتراجع أمام هولِ العاصفة، وقد يحزم حقائبه ويمشي أقلَّهُ نفسيّاً ومعنويّاً، حتّى ولو كان لا يزال يأتي إلى مكتبه في كلِّ صباح. تحدَّثْ مع مدراء المدارس هذه الأيّام في المدارس الرّسمية والخاصّة. في لبنان أكثر من ألفي مدرسة؛ انتقِ عشوائياً ثلاثين من مديريها ومديراتها. خاطبْهم. هم في قلق، وهذا القلق يدفعهم إلى مداعبةِ فكرة الانسحاب من المواجهة. الأكفّاء منهم يسألون أنفسهم هذا السؤال: “شو الله جابرني جيت على التّربية؟” وغير الأكفّاء منهم يُعزّون أنفسهم بالقول أنَّ غيرهم هم المسؤولون عن هذه الأزمة التي يتخبّطون فيها. قليلون هم الذين يتحدثون عن الحلول، وقليلون هم الّذين يشاركونك بأفكارٍ نوعيّة جديدة ثورويّة وأقول كاميكازيّة، ويقاتلون بها ومن أجلها قتالاً شرساً. أنتَ بحاجةٍ إلى العناد في القتال. العناد هو الإسم الميداني لعبارة الـ perseveranceأي المثابرة، والـ resilience أي المرونة النّفسيّة، والـ persistenceأي الإصرار. أريدُ أن أسمّي كلّ ذلك “العناد”، ذلك لأنّ في أزمنة القِتال أنت لا تقدرُ أن تستعملَ عباراتٍ جِد تنمويّة وجديدة وثقافيّة! أنتَ بحاجةٍ إلى أن تتكلّم لغة الشّارع وساحات المعارك، وإنْ كنتَ تُحسِنُ فعل ذلك بتهذيبٍ عالٍ جدّاً. نريد عنيداً به من الحماس ما يكفي لكي ينسى أن ينام.
وأمّا الصِّفة الثالثة التي يجب أن يتمتّع بها من يدير مؤسسةً تربويةً وفريقه هذه الأيام هي صفة المتعدِّد المهمّات أو الكفاءات أي polyvalent. على المدير في هذه الأيام أن يكونَ مُلِمّاً بمواضيع الـ ـfinance أي التمويل، والإدارة بمفهوم الـ management، والـ fund-raising أي جمع التّبرعات، وهذا بات أساسيّاً، وعِلْم النّفس لكي يستطيع أن يتعاطى مع حالاتٍ نفسيّة إنسانيّة موجعةٍ للقلب والذّهن في آنٍ معاً. هذا المدير بات في رابع أو خامس أو آخر أولويّاته شرط معرفته وإلمامه بالمفاهيم والممارسات التّربويّة. قبل عشر سنوات من اليوم، كانت التّربويّات في المدارس هي الأساس. اليوم وأقولها بالفم الملآن هي ليست الأساس. في مدرسةٍ نَشِطةٍ، يستطيع المعلّمون والمعلّمات أن يسيروا وحدَهم بالمدرسة إلى الأمام بقوّةِ دفعٍ عالية لثلاث سنواتٍ على الأقل بقوّة الاستمرار. لكن كلّ مدرسةٍ في هذا الزّمن لا تستطيعُ أن تحيا بقوة الاستمرار على الصّعيد المالي والتّدبير “المانجماتي” تحديداً لمدةٍ مماثلة.
أمام مدراء المدارس إثنا عشر شهراً “بالكتير”، فإمّا أن يحقِّقوا اختراقاً، ويصنعوا نجاحاً، ويُنجِزوا حلولاً لمشاكل المدرسة الّتي تُرِكوا يقاتلون فيها لوحدهم، وإلّا فإنَّ مستقبلَ مئات المدارس ستكون في مهبِّ الرّيح في السّنتين المُقبلتَيْن.
هي دعوةٌ هذا الصّباح إلى كلِّ المدارس: بدل أن تفتّش كيف توفِّر القرش، وهذا حقُّها ومفهومٌ بالتمام وأحترمه، هي دعوةٌ لكي تفتّش عن أشخاصٍ كاميكازيّين عنيدين ومتعدِّدي المهمّات يقودون السّفينة أو يساعدون قادة السُّفن على الوصول إلى بَرِّ الأمان. عند ذلك إن كنتَ لا تستطيع أن تحقِّقَ التّوفير، فأنتَ ستذهبُ حتماً إلى ما نسمّيه بالإنكليزية income generating projects أي مشاريعَ تؤمِّنُ مداخيل وذلك لكي تسدِّد عجز ما يعجز الأهل عن تسديده، وما تتراجع الدّولة عن مدّ يد العون من خلاله، ذلك لأنك تُقاتل وحدك.
على القادة التربويّين أن يتحمّلوا الأشخاص المزعجين قربهم، أولئك الذين يقولون “لا” لإقفال مدرسة أو لتحويل مدرسة إلى ما يشبه الباطون لتُمسيَ بلا حياة.
المسألة تتطلّب خلق وعيٍ جماعيّ ٍللمواجهة. الأشخاص المنغمسون في الإدارة اليوميّة لا يخلقون الوعي. ومَنْ يخلق الوعي الجماعي هم أولئك المنغمسون في المستقبل.
من هنا ضرورة وجود الـ think tank في كلّ مدرسة، وفي كلّ جماعةٍ مدرسيّة. العقل يبقى حيثُ يفشل المال. المال عبدٌ خائن. للأسف هو كذلك. أيّام اليُسر ولّت أقلّه لخمس سنوات عجافٍ من الآن. العقل يملأ الفراغ. خسارةٌ أن تضعَ المدارسُ ثقلها لكي تُوفِّر. أقول هذا حقُّها وإنّي أفهمها كلَّ الفهم. لكنَّ الخسارة الأكبر هي أن لا تفتّش على كاميكازيٍّ عنيدٍ متعدِّد المهمات ليقود أو ليساعد القائد في مهمة تبدو حتى الآن A mission impossibleأي مهمّة مستحيلة.
فلنتذكّر دائماً أنّ الرجل العظيم هو من يقوم بواجباته عندما لا يقوم الآخرون بشيء.
سمير قسطنطين