بعد الطائف، وتحديداً في التسعينات، عرَف لبنان ما سٌمّيَ آنذاك بالـ “ترويكا”. ضمّت الترويكا الرئيس نبيه برّي رئيساً لمجلس النوّاب وهو كان الأقوى في طائفته، والرئيس الراحل رفيق الحريري، رئيساً لمجلس الوزراء وكان الأقوى في طائفته، والرئيس الراحل الياس الهراوي الذي لم يكنْ الأقوى بين الموارنة، لكنّ الدعم السوري له وضَبْطَ سوريّا لإيقاع العلاقات بين الرؤساء الثلاثة، ساعداه على أن يتوازن في القوّة مع الرئيسَيْن برّي والحريري. بعد هذه الترويكا، جاءت ترويكا الرئيس إميل لحود والرئيسين برّي والحريري. الرئيس لحّود لم يكن الأقوى شعبيّاً بين الموارنة، لكنّ سوء العلاقة بين السوريّين والرئيس الحريري، ودعم حزب الله له، ساعداه بأن يتوازن مع برّي والحريري.

في ذلك الزمن شعر المسيحيّون أنّ الشيعة والسنّة يأتون بمن يريدون وزراء ونوّاباً ورؤساء، فيما المسيحيّون يُفرَض عليهم من يمثّلهم بشكلٍ عام. حتّى في انتخابات الـ 2009، أي الانتخابات الأولى بعد اغتيال الرئيس الحريري، برزَت إتّجاهات لانتخاب رئيسٍ آخر لمجلس النوّاب غير الرئيس نبيه برّي. تيّار المستقبل وحلفاؤه من المسيحيّين والدروز كانوا يميلون لانتخاب نائبٍ شيعي من حلفائهم في 14 آذار. وأذكر كيف تردّد إسم النائب الدكتور غازي يوسف كبديلٍ للرئيس برّي. لكنّ ترشيح يوسف بقي خجولاً وفي الكواليس. يومها أبلغ الثنائي الشيعي الجميع أنّ مرشّحه لرئاسة المجلس هو الرئيس برّي في رسالةٍ واضحة مفادها أنّ الشيعة لن يقبلوا بأيّ رئيسٍ للمجلس سوى الرئيس برّي.

ومن هنا، تعزّز الكلام في الوسط المسيحي آنذاك لكي تتمثّل رئاسة الجمهوريّة أيضاً بالأقوى بين الزعماء الموارنة، أي بالعماد ميشال عون. وكان الظرف بات جاهزاً لهكذا فكرة مع وعدٍ، كان حتّى ذلك الوقت طيّ الكتمان، من حزب الله للعماد عون بانتخابه رئيساً، وخصوصاً بعد حرب تمّوز 2006 وموقف الرئيس عون من هذه الحرب. وهكذا كان.

في عهد الرئيس عون، إكتمل مشهد “الأقوياء في طوائفهم” في سُدّة الرئاسة. الرئيس عون، الأقوى بين المسيحيين رئيساً للجمهوريّة، الرئيس نبيه برّي الأقوى بين الشيعة رئيساً لمجلس النوّاب، والرئيس سعد الحريري الأقوى بين السنّة رئيساً للحكومة.

لكنّ الرياح جرت في اتّجاهٍ لم تشتهِه السُفُنُ. فعلى الرغم من أنّ السلام الحقيقي يصنعه الأقوياء، وعلى الرغم من أنّ خبراء “المانجمنت” في العالم ينصحون كلّ مدير مؤّسّسة أو مسؤول عن فريق عمل بالتحالف مع الأقوياء وليس الضعفاء، فإنّ مشهد “الأقوياء في طوائفهم” لم يحل المشكلة. ففي عهد الأقوياء وصل الفساد بشهادة أهل الحكم إلى مستويات غير مسبوقة، وانهارت الليرة إلى مستويات غير مسبوقة أيضاً، وحلّت فوضى غريبة عجيبة في كلّ ناحية من نواحي الشأن العام. وكأنّ كلّ ذلك لا يكفي، فجاءت جائحة كورونا وحصل انفجار المرفأ. باختصار، وصل لبنان إلى القعر.

طبعاً، معارضو رئيس الجمهوريّة يحمّلونه المسؤوليّة كاملة، ومؤيّدوه يحمّلون السياسيّين الذين كانوا في السلطة منذ الطائف مسؤوليّة الانهيار. في الإنكليزيّة هناك مثلٌ يقول: It Takes Two to Tango، أي أنّ رقصة التانغو تتطلّب راقصين. الكلّ في البلد مسؤولٌ عن هذا الانهيار، إمّا فساداً مباشراً وإمّا فشلاً في معالجته، وإمّا خوفاً.

مجلس النوّاب، ومنذ التسعينات، هو الذي أجاز للحكومات المتعاقبة الاستدانة مرّةً تلو المرّة، وهو الذي لم يحاسب أيّة حكومة على فشلها أو سوء أدائها أو فساد ناسها. وكيف يحاسبها والحكومة هي مجلس نوّابٍ مصغّر في بلادنا. الكلّ مسؤولٌ. الحكومات عزّزت الشراء بمئات الملايين من الدولارات بالتراضي، وتصرّف الوزراء في مجلس الوزراء على قاعدة “مرّقلي تمرّقلَك”. الكلّ استفاد وأفاد غيره، وإلّا ما هو تفسير صمت الوزراء ومن يمثّلون عن تمرير مشاريع تفوح منها رائحة الفساد على طاولة مجلس الوزراء؟ إعطاء الأمثلة على هكذا مشاريع / صفقات بات من باب لزوم ما لا يلزم. لذا لن أعطي أمثلة. كلّ الناس تعرفها.

هذا الوضع، وفشل الأقوياء في إدارة شؤون البلد، أوصلا الأقوياء إلى القبول بحسّان دياب رئيساً للحكومة. غابت الوجوه الفاقعة عن الحكومة لكنّ ملائكتها بقيت حاضرة، فرحل دياب. أتى من بعده مصطفى أديب. هو ليس الأقوى بين السنّة. الزعماء السنّة يوزّعون أخباراً من مثل “الاستشارات الحقيقيّة تجري في بيت الوسط”، أو أنّ “الرئيس ميقاتي قدّم منزلاً مؤقّتاً للرئيس أديب”، أو أنّ “الرئيس الحريري هو الذي سمّى أديب”. هكذا أخبار هي للإستهلاك اليومي غير الضروري. القاصي والداني يعرفان أنّ تشكيل الحكومة يجري في فرنسا. الأسماء المطروحة للوزارة وحاكميّة مصرف لبنان، أسماء كبيرة في عالم الإدارة والمال وغيره. المسؤولون اللبنانيّون يستطيعون أن يقبلوا. هذا هو الخيار الوحيد المطروح حاليّاً أمامهم. طبعاً هُم يحاولون أن يوحوا بغير ذلك. حفظ ماء الوجه أمام الجماهير ضروري في زمن الخسارات الكبيرة.

مصطفى أديب ليس صاحب مشروع. هو كأنابيب المياه ينقل الماء لشعبٍ عطش إلى شكل الدولة. مشروعه ليس مشروع الدولة التي نطمح إليها كمواطنين نريد أن نبقى في لبنان. هو في الوقت الحاضر مشروع حكومةٍ فقط ستُطلق مجموعة مشاريع في جوٍّ مقبول من الشفافيّة. بعد ذلك؟ المسألة مرتبطة بأكثر من عاملٍ، لكنّ الجو لا يوحي بالسلبيّة كما يحاول البعض أن يوحي.

أعتقد أنّ الحكومة قريبة. مهلة الخمسة عشر يوماً تنتهي مطلع الأسبوع الحالي. قد يمدّد الفرنسيّون المهلة ثلاثة أيّام لا أكثر. من بعده ستبصر الحكومة النور أو أنّ البلد سيعاين ظلاماً سياسيّاً بات الكلّ خائفاً منه. كلّ ما عدا ذلك هو من باب المناورات أو الانتحار السياسي. يحزنني أنّ الزعماء اللبنانيّين سيتنازلون للفرنسيّين عن أمورٍ اعتبروها حقوقاً من نوع “التحصيل الحاصل”، لكنّهم لم يتنازلوا عنها لشركائهم اللبنانيّين لينقذوا البلد.

الجهة الوحيدة في لبنان القادرة على “الخربطة” هي حزب الله، لكن لدى الفرنسيّين ألف دليل على أنّ الحزب لا يريد “الخربطة”. منذ انفجار المرفأ، موعد انطلاق المبادرة الفرنسيّة وحتّى اليوم، لم يُدلِ أيّ قياديٍّ في حزب الله بأيّ كلام يعكس استياء الحزب من المبادرة. على العكس فإنّ كلام سماحة السيّد في مناسبتَيْن على الأقل، كان كلاماً متجاوباً. البعض يذهب إلى أبعد من ذلك، فيقول أنّ الحزب يريد التغيير وهو ينتظره. إيران ليست بعيدة عمّا يجري من مفاوضات خلف حيطانٍ أربعة هنا وهناك. بطبيعة الحال هي تريد أن تأخذ أكثر. من الطبيعي أن تطلب ذلك، لكنّ الجوّ العام لا يوحي بصدام. حزب الله “جوّات البرواز” وليس خارجه.

سُبحة مصطفى أديب ستكرّ وتتكرّر. لن يكون الرؤساء هم الأقوى في طوائفهم. طبعاً ليس مطلوباً أن يكونوا معادين لها. لا سمح الله. وفي الوقت نفسه، لن يكونوا “خيال صحرا”. سيكونون ووزراؤهم Managers لدوائر حكوميّة غاب عنها الاحتراف وخفيَ عن عيون مسؤوليها الهدف من إنشائها وهو الخدمة العامّة. الزمن الآتي سيشهد أفولاً لمقولة “الأقوياء في طوائفهم” لصالح “الأقوياء من أجل الوطن”.

أتذكّر جيّداً برنامجاً تلفزيونيّاً تابعه أبناء جيلي في السبعينات من القرن الماضي بعنوان “المشوار الطويل”. البرنامج الذي كان من بطولة شوشو ومحمود المليجي، عالج بشكلٍ ما وبجرأة نسبة إلى الزمن الماضي، مشكلة الحمل من علاقة خارج إطار الزواج. مشوارنا يبدو طويلاً. لعلّه بدأ On The Wrong Foot مع حسّان دياب، لكنّه سيستمر بـ Version أفضل مع أديب إلى أن يتعوّد اللبنانيّون على فكرة أنّ شيئاً ما قد تغيّر. قد لا يكون التغيير شاملاً، لكنّه سيعالج تدريجاً مسألة الفساد، الولد غير الشرعي لعلاقاتٍ جرت تحت الطاولة وفوقها.