تسمع عن مؤتمرات حوار بين مختلِفين في الثقافة. الدعوات تصدر عن جهات دوليّة وعربيّة ومحليّة. “الحوار بين أبناء الديانات”، تعبيرٌ جديدٌ قيد الاستعمال في إشارةٍ إلى الحوار بين المسيحيّين والمسلمين بنوعٍ خاص. هو تعبيرٌ مُتَرجَم عن ذلك المُستَعمَل بالإنكليزيّة Interfaith Dialogue.

الحوار في معظمه هو حوار النُخَب في الفنادق والقصور الرئاسيّة والمَلَكيّة في العالم العربي. وهذا كلّه لا بأس فيه. أنا شخصيّاً شاركتُ في مثله في مصر والدانمارك وأبو ظبي، وفي القصر الجمهوري. في  كلِّ مرّة نأتي من دول عديدة وطوائف كثيرة باحثين عن أجوبةٍ لأسئلة صعبة. الحوار لا يكون سهلا. على مستوى الرغبة، الكلُّ راغب في الحوار، إنّما المشكلة ليست بين هؤلاء المجتمِعين. المشكلة ليست بين القس رياض جرجور والخوري فادي ضو والدكتور محمّد السمّاك والشيخ محمّد أبو زيد. المشكلة هي على الأرض، بين تلاميذ الجامعات كما حصل أكثر من مرّة في الجامعة اليسوعيّة. المشكلة هي في شدِّ العصب الطائفي بوقاحةٍ في كلِّ توتّرٍ سياسي، من طريقة الحديث عن “حقوق المسيحيّين” الاستفزازيّة، إلى شعار “شيعة-شيعة” الذي لا يقلّ استفزازاً.

المشكلة الثانية تكمن في حول ماذا نتحاور ولأّي هدف. أفهم أن المواضيع العقائدية لا يمكن الوصول بها إلى أيّ مكان. فالعقائد لا تبديل فيها، وَهذا لا يزعجني. إذاً، حوار الحياة هو المنشود. لكن مواضيع الحوار الحياتيّة تلامس الدين. نناقش موضوع المواطَنة مثلاً إنطلاقا من حيثيّات دينية. وصدّقوني أنّني لا أمانع ذلك حتى ولو كنتُ غير معجب به. الذي يثير خوفي هو التفاسير الدينيّة الـمُـعطاة وليس الدين نفسه. لذا ترى نفسك عالقاً في شِباكٍ آسر لا تستطيع قدمُك أن تفلتَ منه، وخصوصاً عندما تناقش مواضيع حريّة تغيير الدين، والمساواة في المواطنة، والحقوق في نيل الوظائف العامّة الرفيعة، وغيرها الأكثر حساسيّة، والتي لا أريد أن أخوض فيها الآن لئلّا أكون مساهماً في إثارة حساسيّات لا تفيد.

المحزن هو أنّ القادرين على الحوار من دون حساسيّات لا يمثلون في مجتمعهم إلا نسبة بسيطة يؤسفني القول أنّها تكون غير فاعلة أحياناً. إنه لأمر محزن أن يكون الدينُ أو تفسيرُه مصدراً لكلّ هذا القلق والنفور والعداء ونحن تعلّمنا منذ نعومة أظفارنا أن الله محبة.

في “وزنات” كانت لنا تجربة أعتبرها “البحصة يلّلي بتسند الخابية”، حين طوّرنا برنامجاً تدريبيّاً للتلاميذ وأخذناه إلى 150 مدرسة خاصة ورسميّة. ركّزنا في عملنا على المدارس التي فيها مسلمون ومسيحيّون. في البرنامج حلقات تدريب حول مفاهيم تثمين التنوع، حلّ النزاع، قبول الآخر المختلف، التواصل الإيجابي، ومهارات التفاوض. البلد يحتاج إلى مئات المبادرات مثل هذه. هل كان النجاح خارقاً؟ ليس بالضرورة، لكنّه بالتأكيد دَعمَ صمود المواطنة لكي لا تنهار أكثر.

هل نفقد الأمل؟ طبعا لا، لكنّنا يجب أن نكون أكثر ابتكاراً واندفاعاً وجدّية وإصراراً حول موضوع الحوار بين أبناء الديانات، فالوقت ليس لصالح المواطنين الصالحين الذين حقّا يريدون العيش معا. الوقت يداهمنا وزمن التحرّك الفاعل بات ضئيلا إلّا إذا فَعَلنا المستحيل لوقف الكارثة. لا مفرّ من نقل الحوار من قصور المؤتمرات إلى “بيدر الضيعة”، أي إلى المدرسة. هناك نؤسّس لجيلٍ أقلّ جنوناً من جيلِنا.