على من ستتزعَّمون في “ناطورة المفاتيح”؟
عبر إذاعة “صوت كل لبنان”
تردَّدتُ كثيراً قبل نشر هذا المقال، ذلك لأني في كلِّ مرّةٍ أكتبُ فيها أحرُصُ على أن يكونَ نَفَسي إيجابياً وأن أُفتِّشَ عن قبسٍ من أملٍ بسيط لكي أتشاركَ فيه مع النّاس. لكنّي ومنذ أيّامٍ أعيش قلقاً “بياكل معي بالصّحن”.
قبل أسبوعين بدأ فريقُ “وزنات” بإجراء المقابلات الفرديّة في المدارس مع تلاميذ الصف الثانوي الثّالث والصف الثّانوي الثّاني. في هذه المقابلات يستمعُ أعضاء فريق “وزنات” في مدارس تمتدُّ من النّاقورة إلى النّهر الكبير، إلى آمال شبّان وشابّات أعمارهم في السّابعة عشرة. نتحدّثُ وإيّاهم عن المهن التي تلائمُ شخصيّاتهم والاختصاصات الجامعية التي تُوصلهم إلى هذه المهن وعن الجامعات.
ماذا تغيَّرَ هذه السّنة؟ لأوّلِ مرَّةٍ منذُ تأسيس “وزنات” قبل تسعَ عشرةَ سنة، نجدُ أنَّ ما يحلُمُ بهِ قسمٌ من كبيرٌ من هؤلاء اليافعين هو “الغربة”. حجمُ الرّغبةِ في الذّهاب إلى خارج لبنان كان صادماً في الأسبوعين الأوَّلين من العام الدّراسي. أمرٌ مخيفٌ للغاية. تسألهم “إلى أين؟” الجواب: “ما هَمْ، بلجيكا جيّدة، إلمانيا ولمَ لا؟” بالنسبة لهم، فرنسا وُجهَةٌ ممكنة. لا يهمُّهم كثيراً ماذا سيدرسون في السّنة الجامعيّة الأولى، ولا يعنيهم الكثير إذا ما سافروا إلى أوروبا أو إلى الأميركيّتين. كلُّ ما يعنيهم هو أن يُغادروا لبنان. أليس هذا سبباً كافياً للبكاء؟
أريدُ أن أسألَ القادةَ السّياسيّينَ في لبنان: “على من ستتزعّمون إذا ما هاجرَ هؤلاء؟ أَعَلى أهاليهم الّذين تخطّوا الخامسة والأربعين من العمر؟ وماذا يعنيكُم أن أبقى أنا في لبنان وقد بلغتُ السّتين؟ ماذا يهمُّكم إذا بَقيتُ أنا في البلد وهاجرَ ولداي، وأُصلّي من كلِّ قلبي ألّا يهاجرا”؟
هناك مجموعات سكّانيّة في لبنان إذا ما هاجرَ شبابُها وبقي شِيبُها هنا، فإنَّ المستقبلَ هو نذيرُ شؤمٍ لها. وأتحدَّثُ بنوعٍ خاص عن المسيحييّن وعن الدّروزِ أيضاً. ألا يعني الزّعماء في لبنان، مسيحيّين ومسلمين، أن يفكِّروا جيّداً بحجم اليأس الّذي وصل إليه هؤلاء الشّباب ومن كلّ البيئات والمناطق؟ ألا يعنيهم أنّ هجرتَهم وسفرَهم إلى بلدانٍ بعيدة سينعَكِسُ سلباً على حجم الإقتصاد ونوعيّة الإقتصاد والطّاقة الشّبابيّة في البلد، والأهمّ من ذلك كلّه مستويات التفكير؟ قصصُ قوارب الموت بين بيروت وقبرص هي قصصٌ تجذب انتباهنا أكثر ممّا تلفته قصص الهجرة عبر المطار. لكنّ القصّة هي نفسها في كلِّ منطقة وطائفة ومَرفق.
لم يكُنْ يعنيني يوماً سفر هؤلاء إلى الكويت أو السّعوديّة أو الإمارات أو قطر. لم يكُنْ يخيفني هذا النّوع من الابتعاد. على العكس، كان يُريحني. كان يُشعِرُني بأنّ هؤلاء يعملونَ هناك ويُرسِلون أموالهم لدعمِ العائلات في لبنان وينعشون الاقتصاد اللبناني عبر شراءِ قطعة أرض أو تشييد بيتٍ أو امتلاكِ شقّة. كان وجودُهم هناك ضمانةً لمن كانوا موجودين هنا. لكن ما يُحزِنني ويدمي قلبي هو أنَّ من يذهبون الآن هم في ريعان الشّباب وأنّ هجرتَهم هي إلى ما وراء البحار البعيدة. والّذي يُخيفُني أنَّ هؤلاء، إذا ما دخلوا في نِظام البلد الذي سيذهبون إليه أي إلى system الحياةِ هناك، فأنّ ذلك يصبحُ مصيدةً لهم حتّى ولو داعبتهم مشاعر الرّغبة في العودةِ إلى لبنان. عندما تُسافر إلى الخليج، تشعر وكأنَّك في محطة انتظار القطارات، أو كأنّك في بيتك الصّيفي تنتظر العودة إلى بيتك الأساس عندما تنتهي عطلة الصّيف. لكنّكَ إذا سافرتَ تحت سنّ العشرين إلى كندا أو أميركا أو إلى دولةٍ أوروبيّة فإنّكَ تؤسِّسُ لمغيبٍ عن بلدِكَ لن يكونَ بعده شروق.
في رحابنة “ناطورة المفاتيح”، أدرك الملك – أنطوان كرباج – أنّ المملكة من دون الناس الذين هاجروا لا معنى لها. نزل عن عرشه، ليقرع أبواب البيوت المهجورة، ويصرخ متوسلاً إليهم أن يعودوا، إذ إنّ حتّى “زاد الخير” أرادت الرحيل. لم يبقَ قربه أحد سوى سراب الحكم والسلطة.
هل يفعلها زعماؤنا قبل أن تصبح قلّة قليلة منّا “ناطورة المفاتيح”؟ هل يفتّشون عن الشباب قبل أن يرحلوا؟ سؤالي الأخير إلى السّياسيين هو: “هل يُفرِحكُم هذا الوضع؟ وماذا ينفعُكم كلُّ هذا الكلام عن أنَّكم أبرياء وعن أنَّ الخصمَ هو المخطىء؟ ماذا ينفعُ كلام الّلومِ والعتبِ والتّخوين والتهديد بقلب الطّاولات إذا سافرَ شبابُ لبنان؟ على من ستكونون زعماء عندها”؟
سمير قسطنطين