اللبنانيّون يحبّون لبنان. مفهوم الوطن عندهم قد لا يكونُ واحداً خصوصاً عندما تختَلِطُ مفاهيم الوطن والمواطَنَة ومفاهيم دينيّة وسياسيّة وعقائديّة. لكن في المُطلَق، لا بأس في ذلك ما دام اللّبنانيُّ يحبُّ وطنه. هذا الوطن الّذي تعرَّضَ منذُ قرون لاجتياحاتٍ وحروبٍ واحتلالات ومجاعات وأوبئة، دفعَ النّاس ثمن الإنتماءِ إليه مئات الآلاف من الشّهداءِ والجرحى وذويّ الإرادات الصّلبة. كلٌّ استُشهِدَ من أجل لبنانٍ ما. حتّى الّذين سقطوا في الحرب الأهليّة، من اليمين واليسار، وبِغَضِّ النّظر عن التّحالفات الّتي نسجوها، وعن الخطايا الّتي ارتكبوها، فهُم استشهدوا وبحسب رأيِهم وقناعاتهم في ذلك الزّمان، من أجل الّـ “لبنان” الوطن.
إذا تمعّنتَ في العائلات اللّبنانيّة منذُ العام 1975 وحتّى العام 1990، تكتشف أنّ عائلةً واحدةً لم تخلُ من شهيدٍ أو جريحٍ أو مفقود. ليسَ قليلاً في بلدٍ صغيرٍ مثلَ لبنان أن تخطُفَ الحربُ مايةً وخمسين ألف قتيل. أُريدُ أن أسمّيهم “شهداء”.
في المقابل ترى دولةً كأنَّ لا شهيداً فيها استُشهِد، ولا أُمّاً ثكلى فيها إنتَحَبَتْ، ولا عجوزاً فَقَدَ فلذات كبدِهِ على خطوط التّماس في حربٍ لا نعرفُ حتّى الآن إذا ما كانت أهليّةً أو دوليّةً.
هذه الدّولة هي على عكسِ مواطنيها. المواطنون الّذين فقدوا الغالي والنّفيس من أجلِ وطنهم، وجدوا أمامهم دولةً باعتهم بأبخس الأثمان. خدَعَتهم مقابل فيول مغشوش، وصفقاتٍ مع أصحاب المولّدات الكهربائية، ومقابل تزويرٍ لمشاعاتٍ كانت تخصُّ الدّولة وإذْ بملكيّتها انتقلت من الدّولة إلى الأزلام والمنتفعين. اكتشف المواطنون أنَّ دولتهم فلَشت طرقاتهم بأسوأ أنواع الزّفت، زفتٌ يُشبِهُ عقول مَن يُديرها، وأنّها امتنعت عن صرفِ الأموال لتعزيزِ الإستشفاء الحكومي لأنَّ المسؤولين عن وزاراتٍ مثل هذه كانوا “معجوقين” بتسجيلِ شركات استيراد أدويةٍ لمناصريهم. هذه الدّولة خذَلَتْ النّاس واحتقرتهم.
عندما يكتشفُ المواطن أنّ حُبَّهُ للوطن يقابله دولةٌ تَتَلَذّذ بقهرِه، ماذا تراه يستطيع أن يفعل؟ هو يستطيعُ أن يلجأَ إلى واحدٍ من ثلاثة خياراتٍ: أوَّلاً أن يُهاجِر، والمتشائمونَ يقولون أنَّ حجم الهِجرةِ في السّنتين المقبلتين سيكونُ مُريعاً. ثانياً، أن يقع في فَخِّ الاكتئاب أي الـdepression ، فلبنانَ باتَ من أكثرِ الدُّولِ في المنطقة استهلاكاً لمُهدّئات الأعصاب أي الـ tranquilizers. ثالثاً وأخيراً، يستطيعُ المواطِنون أن يقفوا ويقولوا “لا للقهر”، و”لا” كبيرة لمن يتلذّذُ بقهرهم.
تُشبِهُ علاقةُ اللبناني بلبنان علاقة حُبٍّ من طرفٍ واحد. واحدٌ منهما يعشّقُ روحَ الآخر بينما الثّاني لا يملك مشاعر حُبٍّ تجاهه. هكذا علاقة تُعذِّبُ الشّخص المنغمس في حُبٍ من طرفٍ واحِد، وتوقعهُ في ألمٍ وحُزنٍ.
إلى دول أوروبية يأتي مهاجرون. هُم يكرهون أوروبا وتاريخَها وثقافتَها وحريّاتها. يتورّطون أحياناً كثيرة بأعمال عنف. بعضهم يكره الوطن الجديد. لكنّهم يجدون هناك دولةً تحتضنهم، تعلّمهم، تطبّبهم وتعتني بهم.
ليس هكذا وضعُ اللبناني الّذي يُحِبُّ لبنان وأرزه وشربينه و”عريشة” العنب وشجرة الزّيتون، يُحِبُّ تاريخه وثقافته، ويعشق فيروز. هو أراد أن يستثمرَ أمواله فيه، فاشترى أرضاً لأولاده وأورثَهم بيوتاً. لكنّ الدولة بادلته الحبّ بالخيانة.
المشكلةُ لم تكُنْ يوماً في الوطن الّذي هو الـ “لبنان”. المشكلةُ كانت وما زالت في من حَكَمَ ويحكم لبنان. اللبناني أحبَّ لبنانه، لكنّ دولته أذلّته وكرهته وعاملته معاملة الأسياد للعبيد في عصور الجاهليّةِ المقيتة.
أحدث التعليقات