الغضب … الآن مالئ الدنيا وشاغل الناس. “ستّي بدون وْحَام مريضة”، فكم بالحري مع هذا الكمِّ الهائل من المصائب المتتالية علينا! الغضب هو الشعور الذي يجعل فمك يعمل بسرعة أكبر من سرعة عقلك. الغضوب يُستَفزُّ بسهولة. “دغري بيِطلَعْ من تْيابو”. لسانه يسبق ذهنه. هذه الأيّام، ترى الكثيرين ينفجرون بسهولة، ويشعرون بالتوتّر والغضب في أغلب الأوقات. الغريب في الغضب أنّنا نوجّهه في بعض المرّات صوب الذين نحبّهم كثيراً. نقسو في غضبنا عليهم أكثر بكثير ممّا نقسو في غيظنا على الذين لا نحبّهم.
ويتصاعد الغضب تدريجاً في دواخلنا من شعورٍ مكبوتٍ لا نعبّر عنه وقد يؤدّي بنا في بعض الأحيان إلى الإكتئاب، إلى رغبةٍ في القتل أو ممارسة القتل لا سمح الله في حدّه الأقصى. إقتحام مبنى الـ Capitol Hill في واشنطن قبل يومين هو واحدٌ من مشاهد الغضب. الغضب يأخذك إلى أماكن وتصرّفات لم يكن يخطر ببال أحد أنّك قد تصل إلى هناك. بعض الأشخاص لا يغضبون أبداً، ولكنهم أحياناً يتصرّفون بأسلوبٍ يُغضِب الناس منهم. “يا محلى يلّلي بيغضب”.
كيف يعرف الإنسان أنّه غضوبٌ؟ أطرح هذا السؤال خصوصاً على أولئك الذين يعيشون في نكران. الغضوب يصرخ في وجه أيّ شخص يتصادف وجودُه بالقرب منه عندما يكون غاضباً. هو يعامل الشخص الذي أغضبه بجفاء، ينتقم منه بطرق “غير مباشرة” في بعض المرّات، كأن يفعل شيئاً يعرف أنّ الآخر لا يحبّه، ثم يقول له إنّها كانت مجرد هفوة عن دون قصد. عندما يغضب لا يستطيع أن يتحكّم بنفسه. يقوم، سرّاً، بارتكاب أمورٍ سيّئةٍ في حق من يشعر بالغضب تجاهه، من مثل تشويه صورته أمام الناس. هو لا يثور، هو ينتقم. يمارس عادة النّميمة في حقِّ الأشخاص الذين يشعر بالغضب نحوهم. هو يحب أن يسمع عن الأشخاص الذين لا يحبّهم أنّهم يتعرّضون لمشاكل. قد لا يقول للناس إنّه غاضب منهم، ولكنّه يردُّ لهم “الصفعة” بطرق خفيّة.
بعض الأشخاص يعبّرون عن غضبهم بشكلٍ خفيف. قد لا يقولون شيئا للأشخاص الذين يُغضِبونهم، ولكنّهم يستمتعون بأن يثيروا غيظهم. ربّما يتأخّر مثلاً عن قصد عن موعد مع شخص أغضبه. تراه غالباً ما يميل إلى الإستهزاء من الأشخاص الذين غضب منهم. هو يؤجّل عمل الأشياء التي يطلبها منه الأشخاص الذين يشعر بضغينة نحوهم وإن كان يفعلها في النهاية. غضب من نوع الـ Diet.
الناس تتعاطى مع غضبها بطرائق مختلفة. قد ترى أحدَهم يشعر بالذنب “لمّا بيصرِّخ”، ولكنّه لا يقوى على الاعتذار. آخرُ يتناول حبوباً مهدّئة للأعصاب، أو يشرب الخمر، وأحياناً يؤذي نفسه. البعض يذهب في طريقٍ مختلف عن ذلك فيتعاطى مع الغضب بظرافة وحنكة. فعندما يقوم شخص بإغضابه، فهو لا يتوقّف عند ذلك، لكنه يجد نفسه “متضايق منّو” لوقت طويل، وربّما من نفسه أيضاً. بعضهم لا يغضبون أبداً من الناس، وإنّما يغضبون من أنفسهم فقط. هُم في كثيرٍ من الأحيان يتعاملون مع غضبهم بشكلِ جيّد، وفي أكثر من مرّة يخرجون بنتائج إيجابية. هُم لا يخافون من غضبهم، بل تراهم يتصدّون له.
إسأل نفسك هذا الصباح أسئلة مثل هذه: هل أحاول على قدر استطاعتي ألّا أشعر بالغضب؟ هل أقبل غضبي كردِّ فعل طبيعي للإحباط، وأعبّر عنه، لكنّني أضع لنفسي ضوابط؟ هل أعتبر أنّ الذنب ذنبي عندما يتعلّق الأمر بالغضب؟ هل أعترف دائماً، على الأقل أمام نفسي، أنّني غاضب؟ وبالتالي، هل أفكّر كيف ومتى سأتشارك هذه المشاعر مع شخص آخر؟ هل أحاول أن أتصرّف بشكل أفضل عندما أغضب؟ هل نادراً ما أدعُ غضبي يخرج من دون تحكّم، وإن كان يغافلني أحياناً ويخرج بشكل مبالَغٍ فيه؟ هل عندما أغضب، أحاول أن أبحث عن خطأ ارتكبته تسبّب في غضبي؟ إذا فَعَلْتَ ذلك، فأنتَ تخطو خطوةً نحو الشفاء. لا تبرّر لنفسك الغضب تحت عناوين مثل: “أنا ع القليلي قلبي طيّب”، أو “أنا منّي خبيث متل غيري، يلّلي بقلبي عَ راس لساني”. لا تستعمل هذه الحجج. ينطبق عليها المثل القائل: “حِجّة ما بتقلي عجّة”. الدمار حصل. “روح شوف كيف بدّك تدبّر الأحوال”. لا تفتّش عن تبرير. فتّش عن حل.
دعني أقول في الختام أن الغضب هو واحد من المشاعر الإنسانيّة الطبيعيّة لا بل الصحيّة. المسألة تصبح صحّاً أو خطأً في الخطوة التي تلي الشعور بالغضب. لهذا السبب كتب القدّيس بولس مرّة قائلاً: “وإذا غضبتم لا تخطئوا، ولا تغرب الشمس على غضبكم”. تذكّر دائماً ما قاله مارك تواين عن الغضب: “الغضب هو الأسيد الذي يؤذي الوعاء الذي خُزِن فيه أكثر من الأذيّة التي يلحقها بأيّة مادة يُصب عليها”. الغضوب يفعل كلّ ذلك من دون أن يُدرك أنّه ما لم يكبح جماح الغضب، فإنّه غالبا ما يكون أكثر أذيّة له من ذلك الجرح الذي أوقد فيه الغضب.
اليوم أُريد أن أتعلّم من تجربة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون الذي استقال قبل أن يعزله الكونغرس بعد فضيحة “ووترغايت”. في كلمة الوداع التي توجّه بها إلى كبار موظّفي البيت الأبيض قُبيل لحظاتٍ من تركه سُدّة الرئاسة، وكان يومها قد بات مكروهاً لدرجةٍ كبيرة، قال: “تذكّر دائماً أنّ الآخرين قد يكرهونك، لكنّ الذين يكرهونك لن يربحوا إلا إذا كرهِتَهم أنتَ. عند ذاك فقط، أنتَ تدمِّر نفسك”.
سمير قسطنطين