قلّل كثيرون في لبنان من أهميّة الديمقراطيّة في الولايات المتّحدة في أعقاب اقتحام مناصرين للرئيس دونالد ترامب، مبنى الـ Capitol Hill قبل تسعة أيّام. هَزِءَ الهازئون واعتبروا أنّ الديمقراطيّة الأميركيّة مثالٌ فاشل، وقالوا: “أنظروا ماذا حصل”.
كلام هؤلاء توقّف هناك. منذ ذلك الحين لم نعُدْ نسمع أصواتَهم تعليقاً على ما حدث بعد السادس من كانون الثاني. أنا لا يعنيني ماذا فعل المتظاهرون. ففي الدول التي يحكمُها القانون، ليس مهمّاً ما أنتَ فاعلُه. المهم ماذا يقول القانون عن عملك، وكيف تتعاطى وكالات إنفاذ القانون Law Enforcement Agencies معك. لذا لم أرَ في دخول الكونغرس عنوةً أيّ تهديدٍ للديمقراطيّةِ أو تقليلٍ من شأنها. كُنتُ بانتظار كيفيّة تعاطي المؤسّسات الدستوريّة مع الحدث. فماذا حصل منذ ذلك الحين؟
قبل يومين صوّت مجلس النوّاب الأميركي على اتّهام الرئيس بـ “التحريض على التمرّد”، وقد أيّد جميع الأعضاء الديموقراطيين، وعشرة أعضاء جمهوريين قرار “عزل” الرئيس ترامب Impeachment، ما جعل ترامب الرئيس الأوّل في تاريخ الولايات المتحدة الذي يُحال على المحاكمة مرّتين أمام مجلس الشيوخ. وبموجب الدستور، فإنّ مجلس النواب يتّهم الرئيس، ومجلس الشيوخ يحاكمه. ولا بدّ من توافر غالبية الثلثين لإدانته وعزله.
أسئلة قليلة ومباشرة لمعلّمي الديمقراطيّة في بلادنا:
عندما ينضم عشرة نواب من الحزب الجمهوري، وهو حزب الرئيس، إلى النّواب الذين صوّتوا لصالح عزله، أليست هذه ديمقراطيّة؟ من يفعلها في لبنان من أحزاب الذين هزئوا بالديمقراطيّة الأميركيّة؟
عندما يفرض موقع “تويتر” الأميركي حظراً على الرئيس الأميركي فلا يحقّ له بعد الآن نشر تغريداته، أليست هذه ديمقراطيّةً؟ من كان من المسؤولين في بلادنا ليسمح بهذا؟ وعندما يجمّد “تويتر” بصورةٍ نهائيّة سبعين ألف حساب مرتبطة بـ”كيو آنون”، الحركة اليمينيّة المتطرّفة التي تؤيّد الرئيس ترامب، وذلك لمنع أصحابها من استخدام المنصّة للترويج للعنف، أليست هذه ديمقراطيّة؟
وعندما يطلق رجال الشرطة النار على مقتحمي مبنى الكابيتول ويردون خمسة منهم قتلى وهم مناصرون لرئيس البلاد، ألا يعني هذا أنّ القوى الأمنيّة هناك هي فعلاً وكالات لإنفاذ القانون، وليس لمسايرة الرئيس؟ أَوَليست هذه ديمقراطيّة؟
كلُّ الذين هزئوا بديمقراطيّة أميركا يتشاركون حقيقتين: الأولى تتمثّل في أنّ خبراتِهم التراكميّة في ممارسة الديمقراطيّة في سلوكهم السياسي هي خبرات محدودة. والحقيقة الثانية هي أنّ فهمَهم لنظام الحكم في الولايات المتّحدة غالباً ما ينطلق من عدائيّة مزمنة.
أنا شخصيّاً، لم أكُن يوماً مُعجبَاً بالحزب الديمقراطي في أميركا. “بعرف إنّو آخر همّن”. الحزب الديمقراطي أكثر ليبيراليّةً ممّا أحتمل أو حتّى أفهم. لكن في هذه المسألة، لم أقدر إلّا أن أرى حرصَهم على ممارسة الديمقراطيّة وإن كان بعضهم قد تجاوز اللياقة في التعبير.
منذ سنين طويلة وأنا أعتقد، ولم أغير رأيي، أنّ الأميركيّين رائعون في ديمقراطيّتهم داخل بلادهم. موضوع فلسطين، بالنسبة لي، هو الإخفاق الكبير، ولعلّ لذلك ارتباطاً بالسياسة الخارجيّة لأميركا، أكثر من ارتباط الأمر بالديمقراطيّة.
دوايت أيزنهاور، الرئيس الرابع والثلاثون لأميركا قال مرّة: “ما يمكن إبقاءنا أحراراً هو إيماننا الفرديُّ بالحريّة”. لا شكّ في أنّ كلَّ نظام سياسيٍّ يحمل في باطنه ضعفاً، لكنّ الديمقراطيّة في رأيي هي أقلّ الأنظمة السياسيّة سوءاً.
سمير قسطنطين
أحدث التعليقات